واليوم يواجه البرد والجوع بجسده المنهك وحيدا معدما دون معين في خيمة النازحين
كم يثير الاسى والاسف الوضع المأساوي للكثير من الابطال الذين وضعوا حياتهم قربانا لاهلهم وارضهم ، ليدافعوا عنهم مقاومين بعزيمة الرجال الميامين ، ليضحوا يوما مع مرور السنين قد بلغوا فيه من العمر عتيا يعيشوه فقراء منسيين معدمين دون ان يلمسوا تقدير تلك المواقف البطولية رسميا او مجتمعيا وان كان بدعم انساني او مادي بسيط يقيمون به اودهم في ما تبقى لهم من عمر هم هذا الذي يعيشونه تحت وطأة المرض وتداعيات تعب السنين ومجهودهم فيها في سبيل غيرهم.
إنه لأمر يبعث على الحزن والأسى أن نجد أبطالًا بذلوا أرواحهم في سبيل أرضهم وأهلهم مدافعين غيورين ، قد انتهى بهم المطاف منسيين، يعانون ضيق الحال ومرارة العيش. وجل هؤلاء من الذين انتخوا بأنفسهم لأهلهم وارضهم وقيم مجتمعهم ووطنهم ، ليحملوا على عاتقهم مسؤولية الدفاع عنهم وعن كرامتهم ووجودهم ، وأفنوا في سبيل ذلك سنينا طوال من حياتهم مغاويرا مقاومين في ميادين القتال ، دون ان يجدوا في خريف العمر من يحتضنهم أو يكافئهم حتى بأبسط أشكال التقدير والرعاية سواء كان ذلك معنوياً أو مادياً.
ولكن ان يصل واقع حال احدهم مثل البطل موضوع الحديث مام رشو شيبو قاسم قاهر الإرهابيين الدواعش في سنجار سنين غزوتهم و حملة ابادتهم الجماعية لاهلها الايزيديين ، حدا مأساويا هذه الايام ، لتجده فيها يعيش في مواجهة البرد والجوع وحيدا منسيا في خيمته بمخيم النازحين دون معين ، فذلك خيبة لآمال الناس مواطنين كانوا ام مقاتلين بأوطانهم أو لنقل بمن يمثلهم فيه اداريا ومجتمعيا ودينيا.
هذا ما اشار له في مقال على موقعه على منصه التواصل الاجتماعي (لفيسبوك) السيد خدر ديرو الخانصوري يوم أمس، 26 شباط 2025 ، في مناشدة إنسانية منه سلط الضوء فيه على الوضع المأساوي الذي يعيشه البطل مام رشو شيبو قاسم.
مام رشو، ابن مجمع كرزرك الواقع في اطراف سنجار ابى ان يغادر جبل الصمود والمقاومة (جبل سنجار ) بل انضم لاخوته المقاومين ليقاتل الدواعش منذ اليوم الأول لغزوتهم في 3 آب 2014، واستمر مقاتلا شهما حتى تم تحرير ناحية الشمال وكامل مركز قضاء سنجار من دنس هؤلاء الإرهابيين اعداء الحياة.
كان في طليعة المدافعين عن أهله ، عن النساء والأطفال،
عن الأرض والمبادئ ، عن المعتقد والقيم ، عن الشرف والكرامة. وله في كل ذلك مواقف بطولية وصولات فارس وصمود مقاتل ، ينهال كالصقور مع المقاومين على مواقع الغربان الدواعش مكبدين لهم خسائر بشرية كثيرة ، ويصدونهم عن الاقتراب من سفوح واقدام جبلهم بغية الاجهاز على من التجؤا إليه واحتموا فيه لاسابيع وهم بمئات الآلاف من اهله قبل ان يصلوا إلى مخيمات النازحين ، جبل بقي حتى النهايه طاهرا عصيا على الدواعش بما يضمه من مقدسات ورموز وما يمثله من تاريخ عرفوا به وعرف بهم.
قاتل مام رشو ببسالة و بعزيمة لا تلين، لم يتراجع ولم يستسلم، بل واجه قوى الشر الدواعش بإرادة لا تلين و بشجاعة لا تعرف الخوف.
لكن أين هو مام رشو اليوم؟
يقول السيد خدر ديرو الخانصوري عنه في مقاله المشار له ، انه يعيش نازحا في مخيم خانك للنازحين الواقع في اطراف مدينة دهوك ، وحيدا في خيمة بائسة للنازحين وجد نفسه فيها بعد تحرير موطنه سنجار ، يعيش فيها تحت رحمة البرد القارس في هذه الايام التي وصلت درجه الحرارة ليلا فيها الى ما دون الخامسة تحت الصفر ، بلا مدفأة ، خيمة لا تفترش أرضها حتى قطعة من بقايا كنبار قديمة تخفف عنه قسوة برودة ارضها ، محروما من أي مصدر للكهرباء، سواء من الشبكة الوطنية أو عبر خط مولدة أهلية.
هكذا يعيش حياته هذا رجل الرجال بجسده الذي أنهكته سنوات العمر دفاعا عن موطنه واهله ، مع ذلك ما يزال محتفظا بروحه الصامدة رغم كونه لا يملك حتى رداء يدفئه من برد هذه الايام ، سوى تلك القمصلة التي تبرع بها أحد فاعلي الخير. بل لا يستطيع حتى شراء سيجارة لمدارات أو مداوات همومه ان صح التعبير ، إلا إذا تكرم عليه أحد باهدائه واحده منها. ومع تقدمه في العمر، لم يعد يجد طعاما يقتات عليه إلا بفضل مساعدة تاتي من الخيرين، بعد أن أنهكته السنين وتركته في الحياة يواجه مصيره في شيخوخته وحيدا.
يا حيف الرجال الرجال مع الزمان والأوطان
كيف يمكن لمن دافع عن كرامة موطنه واهله أن ينتهي به الحال هكذا؟
كيف يُترك رجل أفنى حياته لسنين في قتال الاشرار الغزاة ، ليواجه العجز والفقر واليرد والمرض وحيدًا هكذا؟
وهذا ما دعى السيد خدر ديرو لكل من يتمكن و يعرف قيمة وقدر الرجال العظماء، أن يقفوا مع مام رشو ويمدوا له يد العون وهو في عمر متقدم لا حول له ولا معين الا نظرات الى السماء لتعينه صبرا في قضاء بقيه عمره.
و بعد
للاسف على نسيان هكذا ابطال نذروا أنفسهم للدفاع عن سنجار وأهل سنجار بل كل العراق.
كم هو مؤسف تهميش ماضي الأبطال الحقيقيين الذين دافعوا عن سنجار، بينما استغل آخرون تضحياتهم لمكاسب شخصية.
للأسف، تمر الأيام والسنين وتتغير المواقف، لكن تظل الحقيقة الثابتة أن هناك أبطالًا نذروا أنفسهم للدفاع عن سنجار وأهلها، ورغم ذلك، طواهم النسيان. هؤلاء الرجال الذين وقفوا في الصفوف الأولى منذ اللحظات الأولى للمقاومة الشريفة، لم يُدرجوا في قوائم المقاتلين، ولم يُمنحوا أي حقوق تضمن لهم العيش الكريم بعد أن تقدم بهم العمر وأصبح من الصعب عليهم العمل.
كم يذكرني هذا بما أورده الأديب ميخائيل نعيمه في مذكراته سبعون، حين اشار الى فترة هجرته إلى أميركا قبيل الحرب العالمية الأولى ، التي لم يكد يمضي على وجوده هناك عام أو أكثر حتى استُدعي للخدمة في صفوف القوات الأميركية اواخر تلك الحرب العالمية ، وحين وضعت الحرب أوزارها، سُرّح من الجيش مع الكثير من جنود الاحتياط. وبعد فترة على مكوثه في اميركا قرر العودة نهائيًا إلى لبنان، ولكن لم تمضِ سنتين على استقراره في مسقط راسه وهو المحتار في توفير مالا لبناء دار لعائلته، حتى فوجئ بصكّ نقدي عبر البريد من الحكومة الأميركية، هديةً له تقديرًا لخدمته في الجيش. كان المبلغ كبيرًا آنذاك، مما مكّنه من بناء دار في جبل صنين، حيث عاش بقية حياته حتى وافته المنية عن عمر ناهز المئة عام.
أين من ذلك الموقف واقع حال الكثير من أبطال العراق ، امثال مام رشو.
أين دور أولئك الذين استغلوا قضية سنجار وجعلوها جسرا لمكاسبهم؟ أين هم من امتلأت جيوبهم بما كان يُوزَّع بأسم النازحين، فيما كانوا يبرُزون ويسوقون أنفسهم كأبطال لصولات لم يتجرئوا ان يخوضوها حتى في مخيلتهم؟
أين دور الذين أضافوا دون حق أو كفاءة أسماءهم الى وحدات المقاومة او غيرها ، بينما تناسوا الأبطال الحقيقيين مثل مام رشو وغيره الذين حملوا أرواحهم على أكفهم في أحلك المواقف ، بينما بقي المستغل لقضيتهم متفرجًا من بعيد أو مستحوذًا على عناوين تضحياتهم ليحمل اسمها ويطولاتها.
أين دور من اضاف اسمه رىيسا او عضوا في هذه المؤسسة الخدمية او تلك المنظمة الإنسانية او الحكومية ، ونسى و تناسى دور الابطال الحقيقيين الذين دافعوا عن سنجار ، اجل بقي ناسيا متناسيا واجبه لمعونه هؤلاء وان كان باضافة اسمائهم وهم في هذا السن لقوائم الرعاية الاجتماعية التي تتكفلهم الدولة.
اين من انتحل بطولات او صولات هذا البطل الذي اثر الصمت أو الانزواء بعيدا وحسبه نشوة النصر واداء دوره في الدفاع بشرف عن قضية اهله وشعبه.
اين دور المجالس الاجتماعية والعشائرية في سنجار وغير سنجار.
أين دور المجلس الروحاني من كل هذا وغيره.
أليس هؤلاء الأبطال جزءاٌ من ضمير المجتمع وذاكرته الجمعية.
أليس إنصافهم واجبا أخلاقيًا قبل أن يكون استحقاقا مجتمعيا وقبله قانونيًا؟
لو كان هذا البطل في دولة أخرى، لمنح راتبا خاصا، ولعاش معززا مكرما ، وربما أُقيم له تمثالٌ يخلّد تضحياته ، و لكانت سيرته البطوليه تكتب في المناهج المدرسيه لينشدوا لها طلبة المدارس و يقتدوا بها الاجيال.
لكن الواقع المرير يجعلنا نتساءل:
لماذا يُترك الأوفياء لمصيرهم، بينما يتصدر المشهد الكثير من من لم يخض معركة مع الغزاة إلا بالكلمات أو بلقطات صور بها نفسه كمقاتل عندما ذهب بعنوان القضيه لساعات الى الجبهات الخلفيه البعيدة الآمنة ، ليعود منتشيا ممتنا بلقطته ، متقمصا دور الابطال على حساب دماء الشهداء وشرف القضية.
إنه لمن المحزن أن يعجز الجسد عن مواصلة المسير بعد عمر طويل من الكفاح في ميادين القتال والحياة عموما ، لكن الأشد إيلاما أن يُخذل هؤلاء الرجال، ويُتركوا دون تقدير أو دعم يليق بتضحياتهم.
يبقى ضرورة القول إن الوفاء لتضحياتهم يجب أن لا تقتصر على كلمات قد تُقال بحقهم في المناسبات، بل يفترض ان يكون التزاماً حقيقياً يترجم إلى رعاية تحفظ لهم كرامتهم، وتقديرٍ يعيد إليهم شيئًا من حقهم المسلوب. إن الشعب الذي لا يحفظ جميل من ضحى لأجله ، يخاطر بأن يفقد روح التضحية بين افراده مستقبلاً، فكيف يُمكن أن ننتظر من الأجيال القادمة الإقدام على ذات المواقف إذا كانت ترى من سبقهم يُهمل ويُترك لمواجهة المصير وحده؟
إنها مسؤولية أخلاقية واجتماعية قبل أن تكون سياسية أو قانونية، أن يُمنح هؤلاء الأبطال بعضاً من الوفاء، ولو على هيئة حياة كريمة تحفظ ماء وجوههم في ما تبقى لهم من سنين.
أليس هؤلاء الأبطال جزءاٌ من ضمير المجتمع وذاكرته الجمعية ؟
أليس إنصافهم واجبا أخلاقيًا قبل أن يكون استحقاقا مجتمعيا وقبله قانونيًا؟
كم من المخزن ان تتنكر المجتمعات والأوطان لعون الرجال الابطال التي حمَوها بدمائهم ، حين تعجز اجسادهم عن مواصلة المسير بعد عمر طويل من الكفاح، لكن الأشد إيلامًا أن يُخذل هؤلاء الرجال، ويُتركوا دون تقدير أو دعم يليق بتضحياتهم.