جبال و زيتون عفرين. ويكيبيديا.

دراساتٌ في الجغرافيا والأثنوغرافيا الشرقيتين.

تأليف: الأب هنري لامنس

صورة الأب هنري لامنس
صورة الأب هنري لامنس

إن الأدبيات المتعلقة باليزيدية أو عبدة الشيطان، هذا الشعب الغامض الذي يسكن جبل سنجار في بلاد الرافدين، تزداد ثراء عاما بعد عام. “قلما نجد في الدراسات الشرقية مسألة أكثر مشقّة وإثارة للاهتمام من تلك المتعلقة بأصل بعض الطوائف الصغيرة أو الديانات التي بقيت وعاشت جنباً إلى جنب مع الإسلام محتفظةً ببقايا من شتى أنواع العقائد والمعتقدات مثل المندائية و الصابئية و اليزيدية و النصيرية1فنحن اليوم لا ننوي إحياء هذه المسألة من أجل اليزيديين باعتبار ان نهجهم العقائدي معروف وواضح (وما يبرر هذا الاعتقاد هو الأعمال الرائعة التي صدرت بهذا الشأن). إلا أننا في هذا البحث نتجاوز البدن العريض للأمة لنسلط الضوء على شريحة صغيرة من هذا الشعب، مستقرة في سوريا و لم تحظَ إلا بالنزر القليل من الدراسة و البحث.

إن الحوض المغلق الذي تقع مدينة حلب وسطه، محدد من الشمال الغربي بسلسلة جبل سمعان التي أعطت أسمها للقائمقامية التي تغطيها بتفرعاتهاو يفصل سهل جومه الذي يتعرج فيه نهر عفرين، أو نهر أوينوباراس (كما يسميه القدامى)، جبل سمعان عن السفوح الشرقية لجبال الأمانوسيشكل جبل سمعان هضبة تقارب مساحتها الـ 95 كم2 ويبلغ معدل ارتفاعها 500 إلى 550 ممن جهته الشرقية يكاد يبرز بصعوبة من بين منظومة تلال منخفضة محدثاً تعرجات في سهل حلبوفي نهايته الجنوبية الشرقية، تظهر قمة صخرية تشكل أعلى نقطة فيه، تتوجها القبة البيضاء لضريح الشيخ بركات (839م).

من الناحية الجغرافية، يصعب علينا، حتى في الخرائط السورية القليلة التنوع والتي تتناول علم التضاريستصوّر منظومة جبلية أكثر رتابة من منظومة جبل سمعانيرتفع هذا الأخير بشكل حاد من جهة نهر عفرين ليبلغ ارتفاعه المتوسط دون أي تدرج ملحوظانطلاقاً من هنايبدأ امتداد الأراضي المنبسطة وقليلة التموج والمغطاة من مكان لآخر بمزروعات ضئيلة وأشجار الزيتون والتين والعنبوعلينا أن نشير بوجه الخصوص إلى غابة كيمار المقدسة، وواحة باصوفان والسفوح المشجرة للوادي المجاور لـ ديرة2 عزة والوادي الجميل المحصور بين هذه البلدة والقمم المتوجة بالبقايا المهيبة لقلعة سمعان.

بالقرب من قرية كلوتا، يشير الأب دو فونكليير في مذكراته المخطوطة إلى وجود غابة خضراء رائعة من البلوط والتين والخروب قُدر لها البقاء والنمو بحرية تحت رعاية الضريح الإسلاميّ للشيخ قصّاب الذي تعود له ملكيتها“. وفي كتابه الصحراء والشمسو في قرية سرقانيا تتحدث السيدة جيرترود بيل أيضاً عن أصناف أخرى من الأشجاربعيداً عن هذه التفاصيليُعدُّ جبل سمعان من بين المناطق الأكثر قحلاً في سورياوهناك شبكة من الأودية أو بالأحرى من القنوات الصغيرة اللطيفة الانحدار، و القليلة العمق التي تساهم بعض الشيء في كسر الطبيعة الرتيبة للهضبة، وتُسهِّل سيلان الأمطار الشتويةتذهب هذه القنوات في اتجاهات مختلفة، ويصل طولها في بعض الأحيان إلى عدة كيلومتراتتشعر في العموم وكأنّك أمام محيطٍ من الكلس الرماديّ تجمّد سطحه المتلاطم فجأةًففي بعض الأماكن تتقلّص القشرة الكلسية، تاركةً المجال لظهور ممرات ضيقة، ومسارات وعرة وزلقة، وهي قنوات التواصل الوحيدة في هذه البقعة الوعرة، ممّا يعطيك انطباعاً بأنّك تمشي على رمادٍ متحجرٍوفي مكانٍ آخر تجد الأرض القاسية الكثيرة الحجارة و قد حلّلتها مياه الأمطار، فتغطَّت بطبقةٍ رقيقةٍ من الأرض الزراعية التي تنمو فيها محاصيل ضئيلةوفي مشهدٍ نادرٍ، نرى قطعاً نافرةً من البلاط الرماديّ على وجه الأرض، تحتفظ برطوبتها بفعل الموادّ العضوية الموجودة بين أجزائها، ليكون لها دور الكتل البركانية نفسها في أرض حورانوفي كل مكان تقريباُ ينبت المرج الأخضر الدقيق بين فجوات الحجارة، ويوفّر مرعىً نادراً يستمرّ منذ الإطلالة الأولى للشتاء حتى بدء الصيفلا توجد في المكان ينابيع على الإطلاق، بل تنتشر على نطاق واسع بين الأطلال آبارٌ وخزاناتٌ جميلةٌ واسعةٌ تركها القدامى.

لم يكن لجبل سمعان دوماً الشكل المهيب الذي هو عليه اليومالآثار المتعدّدة والمُهمَّة التي تعود إلى العهد الإغريقيّ المسيحيّ أضفت عليه إحدى أكثر المظاهر المُميّزةهذه الآثار التي تمَّت صيانتها بشكل عجيب هي شاهد صريح على حقبةٍ قديمةٍ من الازدهارلا شكَّ أنّ هذه الأرض ترفض اليوم لبضعة مئات من الإيزيديين التائهين في خرائبها ما كانت تقدِّمه بسخاءٍ لسُّكَّانها القدامى، فمِنْ خيراتها كانوا يُشيِّدون أروع المعابد لإلههمويزيِّنون منازلهم بأجمل الأعمدة والشرفات والعتبات المنحوتةالإزالة التدريجيّة للغابات أدتْ هنا – وأكثر من أيّ مكانٍ آخرَ– إلى نتائج كارثيّة على سكّان المنطقة، إذ جرَّدتِ التربة من طبقة الدبال الثمينة (موادها العضويةالتي كانت قديماً تحمي هذه الجبال من التجرّد المقيت.

لبيان سبب هذا الاختفاء المفاجئ لهذه المواقع المتألِّقة، يرى العلَّامة المستكشف ڤان برشيم إنَّ هذه الأخيرة ليست سوى منتجاً حصرياً للحضارة الإغريقية، فمن الطبيعيّ والمنطقيّ أنْ تختفي معهاكانت هذه المواقع تُستخدَم كإقامةٍ مؤقتةٍ للطبقاتٍ الميسورةِ القادمة من أكبر المدن الإغريقية السوريةلقد كانت بمثابة مراكز استجمام يؤمُّونها في الفصل الحار على وجه الخصوص“.

هذا التعليل لا يبدو مقنعاً بالنسبة لنا أكثر من السيد ديسووهنا يمكن الحديث عن مدينتين إغريقيتين سوريّتين بعيدتين جداً عن جبل سمعان، إحداهما مسير يوم، والأخرى يومين، همافيريا وأنطاكيةيعيش سكان أنطاكية في حضن طبيعة خلابة، مستنشقين النسيم العليل من ثلاثة جبالالأمانوس3 وسيليبيوس وكاسيوس4فهم ليسوا بحاجة للذهاب من أجل الاستجمام إلى التلال البعيدة والمنبسطة لجبل سمعانكذلك الحال بالنسبة لسُكّان ريفيرا الإيطاليةومرسيليا الفرنسيةفهم لا يفكرون بالذهاب إلى مدينتي آفينيون الفرنسيةأو أورانج الاسترالية لقضاء عطلتهم الشتويةأمَّا بالنسبة لـ فيريافقد أصبحت مدينةً عريقةً عندما – في عهد العرب – تخلَّتْ عن اسمها الإغريقيّأو بالأحرى بعد انهيار قنسرينأو كالسيس بالتسمية القديمةيُجدر الذكر إنُّه – باستثناء القمّة الفريدة لجبل بركات – يعلو جبل سمعان سهل حلب بمعدل خمسين متراً تقريباًلهذا لا تشعر بعناء الصعود إليه لدى قدومك من مدينة حلبوبما أنَّ التنقُّل ضروري في الأحوال كُلِّها، كان السكان قديماً يُؤثِرونَ الترحال إلى جبل كيروس5 أكثر من جبل سمعان.

يبدو أن قرى جبل سمعان كانت موجودة قبل انتشار الثقافة الإغريقيّة، و هذا ما يؤكده الطابع الآراميّ الواضح والجلي لأسماء الأماكن في المنطقةمنذ القرن الثاني إلى السابع الميلاديّ، اعتمدت هذه البلاد الآرامية بامتياز اللغة الإغريقية، ومن ثم اعتنقت الديانة المسيحيةترسَّخ اعتناق الديانة في حين بقيت اللغة عائمةً على السطح ولم تتطور سواءً هنا أو في باقي سوريافي الحقيقة، هذا التحول، إنْ دلَّ فهو يدلُّ على السلم الذي ساد عهد الإمبراطورية الرومانية، وعلى الرخاء وازدياد الثراء العام في ذلك العصر، و قد تجلى ذلك من خلال تحوُّل القرى إلى مدنٍ صغيرةٍ شُيِّدتْ منازلها بطريقةٍ مثيرةٍ للإعجاب، وعلى طرازٍ أنيقٍ.

يُلْمِح السيد برشيم إلى غياب المباني العامة والمنقوشات المهمَّة في منطقة جبل سمعان، باستثناء العديد من الكنائس، ممَّا يُثبت مرةً أخرى حقيقة الطابع الآراميّ العميق لسُكَّان المنطقة القدامىففي حين يشعر سوريو أنطاكية المتشرِّبون بالحضارة الإغريقية بالحاجة إلى بناءِ حماماتٍ وصالاتٍ لممارسةِ الرياضةِ البدنية، ومسارحٍ يزينونها بمنقوشاتٍ دنيويةٍ مطوَّلة، يكتفي سكان جبل سمعان الأصليون بنقشِ رموزٍ مسيحية، وأحياناً نصٍّ دينيّ على أسكفات كاتدرائياتهم ومنازلهم المتواضعة تدلُّ على قوة إيمان البنَّائينأمَّا الآن كيف تُفسَّر الهجرة الجماعية لشعبٍ عريقٍ ترك خلفه شتى أنواع النشاطات الابداعية من عمارة وفنون، وكلّ ما يدلُّ على ارتباطه الوثيق بوطنه الأم؟ لماذا هجَرَ أرضاً عاش عليها خمسة قرون متواصلة من الرقيّ والازدهار؟ عندما يجوع المرء، أو يحمل هموم الغد المظلِم، فهو حتماً لا يفكِّر ببناء مثل هذه المعابد والقصور الشاهقة التي نراها اليوم.

علينا إذاً البحث في تاريخ تلك الحقبة لعلَّنا نجد آثاراً لكارثةٍ ما، سياسيةٍ أم كونيةٍ كانت وراء هذه المشكلةالسلامة المدهشة للأنقاض، وعدم تهدُّمها يذكِّرنا لا إرادياً بكارثة بومبيي البركانية في إيطالياومع ذلك لا يمكن البناء على ظاهرةٍ من هذا القبيل لإيجاد أسباب المشكلةولو أنَّ زلزالاً قد حدث لما وَفَّرَ المعالم الأثريةفالعديد منها لازال واقفاً، ولم تمسُّه يد الزمن.

من جهة أخرىيُلاحظ أنَّ تاريخ آخر نقش مُؤرَّخ يعود لعام 565موبعدها توقَّفت كلُّ أشكال البناءوالسكان أنفسهم يبدو أنَّهم قد غادروا الجبال فجأةًفالنقش الذي عُثِرَ عليه في كيمار يدعونا لإرجاع التاريخ المذكور أعلاه لأكثر من نصف قرنٍ إلى الوراء إذا ما أيقنا أنَّه يعود للعصر المسيحيّيرى السيد برشيم أنَّ الهجرة إمَّا أنْ تكون قد تمَّت بشكل تدريجيّ على غرار أفول الحضارة الإغريقية، أو أنَّها بدأت في مطلع القرن السادس الميلاديّ إثر الغزو الفارسيّ للبلادوهنا ينبغي لنا إثبات حقيقة أنَّ ذلك الغزو قد طال جبل سمعان.

ووِفق ما يرى السيد فوغيه، لم يبقَ لنا إلا أنْ نُشِيرَ إلى الغزو الإسلاميّ على أنَّه السبب المحتمل لحدوث تلك الهجرة الفجائيةبعيداً عن تبرئةِ العرب من التهمة التي تبدو دقيقةً بامتياز، نرى أنَّ الغزو الإسلاميّ قد سرَّع على الأقل من وتيرة الانحطاط الذي بدأ في القرن السادس الميلاديّ مع نهاية النظام البيزنطيّوقد بدأت النتائج الكارثية لهذا الغزو تظهر في جبل سمعان، وما تبقَّى من الأراضي السُّوريَّة.

في منطقتي حمص وحوران على سبيل المثال، أصبحَتْ المنقوشات في ذلك الحين نادرةًواختفت نهائياً فيما بعدفتَوقُّفُ السكان عن النقش باللغة الإغريقيَّة في ذلك الوقت يدلُّ على أنَّ هذه الأخيرة كانت قد أصبحت لغةً أجنبيةً تُستخدَم فقط للعرض، وبدأ نجمها يأفل ويغيب تدريجياً حتى بات استعمالها نادراً خارج نطاق التعامل مع الإدارة.

من هذه الواقعة الطبيعية في الإجمال، لا ينبغي استخلاص نتيجة سياسيَّة بالغة الدقة، فكلُّ شيء قابل للتفسيراستخدام المنقوشات جَلْبٌ إغريقيٌّ صرف، فالسوريُّ يشارك الإغريقيَّ في التعجرف والتصنُّع، إلا أنَّه لا يمتلك طلاقة اللسان التي يتَّسم بها الإغريقيّفلسانه الثقيل لا يسعفه في اللحظات الإبداعية حينما يريد إنطاق الحجارة والبرونزمتعدد اللغات بالأساس، كان السوري يجد في شواهد القبور الإغريقية فرصةً لينشر عليها معارفه اللغوية، ويتملَّق للإمبراطور الإغريقيّ، فعندما تتحوُّل القبائل الصفائية السورية من بدوٍ إلى حضر، أو بعبارة أخرى، عندما يعترفون نهائياً بالسلطة الإمبراطوريَّة، تتوقَّفُ المنقوشات الصفائية، و تُكتَبُ النصوص منذ ذلك الحين فصاعداً باللغة الإغريقيّة البدائيّةففي البداية، تَوَقَّفَ النقش على شواهد القبور خلال الغزو الفارسيّ، واختفى نهائياً بعد الغزو العربيّ، ولم تعد هناك مصلحةٌ لأحد ليبوح بعواطفه الفلهيلينية6فندرة المنقوشات الإغريقية لا تدلُّ على التوقُّفِ النهائيّ للبناء، وإنَّما على تناقص عملية النحت، فكلَّما قلَّ عدد السُّكَّان تباطأت عملية البناء، لكن نستبعد تماماً أنَّ يكون هؤلاء السُّكَّان قد اختفوا فجأةً، كانوا لا يزالونَ موجودين بالجوار أثناء الحروب الصليبيةوالمؤرخون العرب يصورون لنا سكان ليلون7 وهم يهربون من الغزو الفرنجيّوفي النهاية أُبرِمَتْ اتفاقية تمَّ بموجبها التخلي عن قرى الجبل لصالح الغزاة الجدد، وسوف نرى فيما بعد أنَّ المحلِّلين اللاتينيين قد احتفظوا لنا بأسماء بعض هذه القرى.

إذاً إفراغ جبل سمعان من سُكَّانه تمَّ بعد الهيمنة اللاتينيَّة على سوريا، وذلك بفعل الحروب المتواصلة التي أنهت هذه الهيمنة، والتي كانت إحدى مسارحها هذه المنطقة المتنازع عليها بين المتحاربين الفرنجة والعرب، وسوف نرى فيما بعد أنَّ هذا التفسير يتناغم جيداً مع الفرضية التي تبنيناها من أجل التوصُّل إلى تحديد المحطة الأخيرة لحياة الإيزيديين في جبل سمعان.

يؤكد زميلي الراحل الأب دو فونكليير أثناء جولته في منطقة جبل سمعان أنَّه عثر على هياكل موتى ربَّما كانوا البناة الحقيقيين لهذا الأخير، وهنا نترك للجيولوجيين مهمة الحكم على صحة هذا التوكيدبالنسبة لنا، لم نجدْ و لا في أيّ مكان أثراً لمادة ناريةٍ أو حجارةٍ بازلتية تُذكِّر بمنطقة الوعر في حمص، أو بمنطقة حوران، وفي كل مكان، كنا نجد الطبقة الصخرية النافرة نفسَها على شكل كتلٍ كبيرةٍ، أو بلاطٍ مُنبسِطٍو حجارة ذات خروقٍ كلسيةٍ، بيضاءَ رماديّةٍ، بلوريةٍ بعضِ الشيء، رنَّانةٍ، غنيَّةٍ بالصدف، وسهلةِ الاستخدامهكذا اِستُخدِمَتْ هذه الصخور الجميلة التي تشبه الرخام في بناء الآثار القديمة كلِّها للمنطقة.

وما يدعو للتأمُّل، هو القمَّة المخروطيّة النادرة لجبل الشيخ بركات الذي يتربَّع على قاعدةٍ صلبةٍ تمتدُّ إلى أنْ تُغطِّي نصفَ الكتلة الجبليّةوليس بعيداً عن السُّفوح الشَّماليّة لجبل سمعان، تظهر ينابيعُ حِمّة ساخنةٍ في وادي عفرين، وبالتحديد في الجزء السفليّ للمدينة، إشارةً إلى وقوع نشاطٍ بركانيّ قديمٍأمَّا التشقُّقات والشظايا الصخرية المتناثرة في كلِّ مكان على سطح الجبل، والتي تبدو للوهلة الأولى وكأنَّها تربةٌ بركانيَّةٌ، فتُعِيدُ إلى الذاكرة حدوث هزَّةٍ أرضيةٍ قديماً، أو انزلاق تربةٍ توقَّفَ فجأةً وتجمَّدَ.

تسرُّبُ المياه، وتدخُّل العوامل الطبيعية الأخرى ساعد على تفتُّت الصخور، وأدَّى إلى التضخُّم البطيء لهذه التشقُّقات والتصدعات الصغيرة التي تحوَّلَتْ مع الزمن إلى ما يشبه شبكةً من الجداول تغطّي الجبل بنسيجِها الضيّق.

ويشير الأب دو فونكليير أيضاً إلى علامات حدوث ارتفاع قشرةٍ أرضيةٍ قد تكون تسبَّبت بتشكُّل كتلة جبل سمعان، ألا وهي توجه كل ذراه نحو الشرق، والملاحظة الأخرى التي نحمِّلُه مسؤولية صحتها هي أنَّ – باستثناء جبل بركات – العلامة الجغرافية السائدة لسلسلة جبل سمعان هي وجود ما نسمّيه نظام Tabliforme , أي مجموعة تلالٍ ذات قمم منبسطةٍ وأفقيةٍبعض القمم المستديرة تختلف بشكل بسيط للغاية، لدرجة أنَّه يُمكن تصنيفُها ببساطة مع المجموعة الأولى.

بحسبِ قناعاتنا والمعلومات التي استسقيناها ميدانياً,، يتميَّز جبل سمعان بأفضل مناخٍ صحيٍّ في سورياحيث الهواء الجاف النقيّ العديّيرمي نسيم البحر الذي يداعبه من جهة الغرب أولى رطوبته على قمم جبال النصيريين العاليةيمتصُّ فيما بعد الطقس الملتهب في سهلي العمق وجومه ما تبقَّى من بخار الماء المنبعثأمَّا بالنسبة للحرارة، فهي معتدلةٌ بشكلٍ ملحوظٍ في هذه الهضبة بسبب التيارات البحرية المستمرَّة ليلاً نهاراً، والتي ترقى أحياناً إلى قوة العاصفةاستطعنا بفضل هذه النسمات أنْ نجوب الجبل بأكمله في نهاية شهر تموز، وفي الساعات الأكثر إضناءً منَ النهار دون عناء جديٍّ يُذكَرُ، فقط كانتْ تُزعِجُنا قليلاً انعكاسات الشمس على الصخور الملساء المحروقة التي تغطّي سطح الهضبة بقوقعةٍ رماديةٍ تُضفِي عليها شكل السلحفاة.

في اليوم الذي يستعيد فيه نهرا العاصي وعفرين عافيتهما الاقتصادية، سوف يصبح جبل سمعان مصحَّاً عظيماً، ومنتجعاً مفضَّلاً للسُّكَّان الذين أعيتهم الإقامة الدائمة على الأراضي المنخفضة الحارة في مدينة حلب ووادي عفرين.

***

بحسب سالنامات ولاية حلب لعام 1319 هجري و1902 ميلادييبلغ سكان مدينة قائمقامية جبل سمعان 26149 نسمة بالضبط: 11596 رجلاًو14553 امرأةًكلهم مسلمونويؤكد أحدث إحصاء أُجري في عام 1324 هجري على أنَّ مجموع سكان الجبل قد انخفض إلى 25001 نسمةأمَّا من الناحية الدينيَّة فلم يحصل أي تعديل.

وفي تلخيصه للوضع الاِثني والطائفيّ لمدينة حلبيتكلَّم الدليل الرسمي عن المجموعات المسيحيّة واليهوديّة وحتى الأجنبيّة متناسياً مرةً أخرى التطرُّق لمن يُسمَّونَ أحياناً بـ المنشقون عن الإسلام الرسميّ“. فهو يهمل الدروز والنصيريينولا ذكر لهم لا في المسح العامولا في الجداول التي تقدِّمها المقاطعات الفرعيةبالنسبة للنُّصيرينيبلغ عددهم بالآلاف في ولاية أنطاكية وحدَهاحيث يمثّلون الشريحة العظمى من السكان غير المسيحيينويأوي جبل العلاء شرقيّ معرة النعمان بعض المجموعات الدرزية قليلة الأهمية من الناحية الكمّيةويبدو أنَّ مُحرِّر الدليل قد انحاز لعواطفه عندما أصرَّ على دمج جميع الشرائح الطائفيّة التي لا تدين لا للمسيح ولا لموسى تحت مظلة الإسلاموفي الحقيقةيبقى الوضع الدينيّ والإثنيّ لجبل سمعان أكثر تعقيداً ممّا تُظهره السجلات التركيّة الرسميّة.

من بين هؤلاء السُّكَّان الذين يقطنون الكتلة الجبليّةنخصُّ بالذكر الطائفة الإيزيدية الغريبةيدَّعي إيزيديو جبل سمعان أنَّ أصلهم من جبل سنجار في بلاد الرافدين وهو المركز الأساسيّ لنشأتهمولا شيء يمنع من تصديق هذا القوللكنْ يمكن أيضاً أنْ يكونوا قد اعتنقوا الإيزيدية عن طريق التبشيريين القادمين من وراءِ الفرات كما هو الحال بالنسبة للنصيريين.

وعن سؤالنا حول تاريخ استيطانهم في سورياأجابنا الأكثر انفتاحاً من بينهم وهم الـقره باشسكان قرية عرشقيبار: “من قديم الزمان“, وهو الرد المعتاد على هذا النوع من الأسئلة في هذا الشرق المحافظوالمعادي بطبعه للتقاليد الخاصةمع ذلك يجب تسليط الضوء على هذه الخصوصياتلسوء الحظلا تشير الوثائق العربيّة المكتوبة إطلاقاً إلى إيزيديي سوريا.

يرى الأب دو فونكليير أنّ هذه القبائل اجتازت الفرات في وقت كانت تحتشد الأمم بمختلف عاداتها وطباعها وأصولها لتتقاسم بقايا الامبراطورية السلجوقيّة المزدهرةوقد يكون هذا التاريخ قديماً بعض الشيءونعتقد أنّه يتعين علينا تحديد هجرة الإيزيديين بعد الحرب الصليبية.

مؤرّخو هذه الأخيرة مِمَنْ عرفوا الدروز والإسماعيليين والنصيريين لم يُظهِرُوا شكّاً من وجود الإيزيديينمع ذلك امتلك الفرنجة عدداً من المنازل في المنطقة التي تقطنها الآن هذه الطوائف.

يتبع……

1 كارا لوفوأبن سيناص 61, في مجموعة الفلاسفة الكبار.

2 يراد بها بلدة دارة عزة في ريف حلب.

3 الجبل الأسود

4 الجبل الأقرع

5 جبل كورش(النبي هورييقع في شمال مدينة عفرينالمترجم

6 المناصرة والمحبة للإغريق

7 حبل سمعان