الدكتور خليل جندي : سيرة حياة عالم دين فقير حجي إبن فقير شمو

قبل ايام بحث لي أخي وصديقي بدل فقير حجي الذي أكن له محبة خاصة، صورتين معبرتين لوالده عالم الدين الفاضل فقير حجي إبن فقير شمو، صورتان تعبران عن مرحلتين تاريخيين مختلفتين؛ مرحلة الشباب والحيوية والعطاء، ومرحلة الشيخوخة. صورة عالم قدير يتعكز على عكازته وهو جالس القرفصاء، هزّت مشاعري وحرك وجداني، فقررت أن أوفي هذا الانسان العظيم الذي نذر حياته لأبناء جلدته، خادماً أياهم في حفظ تراثهم الديني وناقلاً إليهم بأمانة ما تعلمه من علماء الدين الايزيدي من قبله، ومربياً لأكثر من جيل.
ولد فقير حجي عام 1928 في قرية كابارا الواقعة على بعد حوالي كيلومترين غرب باعذره التابعة لقضاء الشيخان. ترك والد فقير حجي قرية كابارا في بداية الثلاثينات من القرن العشرين لتستقر العائلة في قصبة باعذه مركز الإمارة، ويصبح والده فقير شمو سادن (مجيور) معبد لالش آنذاك. وحينما كان فقير حجي في الثلاثين من عمره، اختار لنفسه طريق الزهد والنسك وترك ملذات الدنيا، ولبس لباس التصوف “الخرقة” المقدسة. وتوجه نحو تعلم علوم الدين الايزيدي على أيدي علماء ذلك الوقت وفي مقدمتهم البابا جاويش (بير جروت بير الياس) و (كوجك صادق) من سكنة بعشيقة وبحزاني.
منذ ذلك الحين والى سنين قريبة، أي على إمتداد سبعة عقود تقريباً، يخدم فقير حجي الديانة الايزيدية، ويشارك في أداء طقوس الديانة وإحياء مراسيمها وعاداتها سواء في معبد لالش أو مع جولات (الطاووس) في القرى الايزيدية.
بداية خمسينات القرن الماضي، تولى فقير حجي نفسه إدارة معبد لالش وأصبح سادن البيت، وستثمر تلك المهمة وذاك التواجد لكسب المزيد من العلم الديني والتضلع في شرحه وتفسيره. سمعت منه شخيصاً أنه يحفظ عن ظهر قلب ما بين (80-100) نص ديني من: (أقوال، أبيات، أدعية، قصائد، أحاديث، خزيموك، بايزوك، أغاني الغربية وخاصة “لافز”). ويجيد هذا العالم القدير ميلوديا جميع النصوص الدينية ويؤديها بشكل رائع بصوته العذب الذي يحمل أجمل الأحاسيس والمشاعر. هذا إضافة إلى حفظه لعشرات الأساطير والحكايات وقصص الأنبياء وأولياء الايزيدية بشكل خاص.
يعد فقير حجي من المتضلعين في علم الدين الايزيدي ويأتي في مقدمة العلماء، وأولهم حسب إعتقادي. ويعود لسماحته الفضل الأول برفع الحظر عن النصوص الدينية ومن المؤيدين لتوثيق وحفظ هذا التراث، وبالتالي تزويد الكتاب الايزيديين بما يحفظه منذ بداية السبعينات ليقوموا بنشرهم وتحليلهم وأرشفتهم داخل العراق وخارجه.
يشهد التاريخ على الموقف النبيل لسماحة فقير حجي تزويده السيد (عادل قوال حجي) لأول مرة بالعديد من النصوص الدينية عام 1979 لثقته به. وكان السيد عادل قوال حجي آنذاك أحد طلبة الجامعة المتحمسين والمهتمين بجمع التراث الديني وأرشفته، إلاّ أن ملاحقة النظام له حينذاك أجبرته ترك دراسته والالتحاق بصفوف حركة الانصار بداية ثمانينيات القرن الماضي، ليستشهد مع نصير آخر دفاعاً عن الوطن والقيم النبيلة ذلك أواسط الثمانينات على يد مرتزقة أحد سرايا أبو فراس الحمداني التابعة لرئيس عشيرة ايزيدية من سنجار!
كان سماحة فقير حجي من أوائل المدعوين، كعالم دين متميز، إلى المؤتمر العلمي العالمي الأول في تاريخ الايزيدية الذي أقامه مركز الايزيدية خارج الوطن (EZIA) عام 2000 بمدينة هانوفر الالمانية.
من الجدير بالذكر أن العديد من الرحالة والباحثين الذين زاروا لالش وكتبوا عن الايزيدية باللغات العربية والانكليزية والالمانية وغيرها، تطرقوا إلى فقير حجي ونشروا صوره في المجلات والدوريات والكتب، أول صورة له نشر عام 1942، تلك الصورة المرسومة من قبل الفنان المعروف (عطا صبري)، تلك الصورة ما زالت محفوظة في (متحف الفن الحديث).
أعظم إنجاز، وأعظم عمل يسجله التاريخ لسماحة عالم الدين الايزيدي فقير حجي بفخر ومدد من ذهب، هو وضع غالبية ما يمتلكه، إذا لم نقل جله، من النصوص الدينية والشروحات والتفاسير بين يدي نجله (بدل فقير حجي) الذي بذل بدوره جهداً كبيراً في حفظ وأرشفة ونشر خزين والده من علم الصدر، كما أصدر كتاباً بعنوان (باوه رى و ميثولوجيا ايزيديان= معتقد و ميثولوجيا الايزيدية).
بعد هذه الخدمة الكبيرة التي أشرنا إلى جزء يسير منه، والتي تمتد لفترة تاريخية تزيد على سبعة عقود، يستحق هذا العالم الديني الكبير، ليس فقط التقدير والاحترام والثناء، إنما يستحق كل التبجيل. ونتيجة غزارة علمه وسعة إطلاعه وفصاحة خطابه، كان يفترض أن يتربع فقير حجي إبن فقير شمو على عرش “أختيارى مركه هى” أي أن يكون بابا شيخ الايزيدية كما تربع “كوجك بريم” من طبقة المريد عليها فيما مضى نتيجة علمه وكراماته!.
نتمنى لعالمنا الديني سماحة فقير حجي كل الصحة و العمر الطويل.
منقول من كتابي: صفحات من الأدب الديني الايزيدي، مع بعض الاضافات (ص 1103-1104)