الولايات المتحدة الأمريكية لن تنسحب من جزئي كوردستان، والمناطق الأخرى في سوريا والعراق، وجودها جزء من إستراتيجية الصراع مع الحلف الروسي الإيراني في المنطقة. ومصالحها قبل مصالح حلفائها يتطلب البقاء وحماية المنطقة، وإن تجاوزت الميليشيات الإيرانية حدود البلبلة إلى التعرض لحياة جنودها، سيكون رد الفعل عنيفا على الداخل الإيراني، وهو ما تعلمه إيران، وتتحذر منه، وقد وضحتها أمريكا من خلال الحشد الهائل لقواتها وحصار الشرق الأوسط، علما أنها تحاول جاهدة عدم توسع ساحة الصراع، ربما إلى أن تنتهي إسرائيل من مشروعها ضد حركة حماس وتحديد مصير قطاع غزة، ولئلا تتنفس روسيا بفتح جبهة أخرى مع الجبهة الأوكرانية، فكما تتبين أن الدعم الأمريكي لإسرائيل بدأت تؤثر إلى حد ما على دعمها لأوكرانيا ضمن الكونغرس سياسيا وليس في البعد العملي.
وعليه قال (مايكل روبن) اليوم أن الكونغرس الأمريكي لن يوافق على مشروع الانسحاب من سوريا، كرد على المشروع الذي قدمه السناتور الجمهوري عن ولاية كنتاكي (راند بول) إلى الكونغرس للتصويت عليه، ومن المعروف أن السناتور من مؤيدي دونالد ترامب، ومن بين الداعمين له أثناء محاولته عام 2018 الانسحاب من سوريا، وهو من مجموعة إدارته الذين طالهم اللوبي التركي.
قدم السناتور المشروع مثلما عرضها سابقاً الرئيس دونالد ترامب تحت حجة الحفاظ على أرواح الجنود الأمريكيين في منطقة تم إنجاز ما جاؤوا من أجله، وهو القضاء على داعش، علما إننا نتذكر كيف أن ترامب كان على أبواب إرسال دعوة رسمية لقائد قوات (قسد) (مظلوم عبدي) بعد مكالمته، وتقديمه للإعلام بصفة الجنرال، وبدعم من وزير دفاعه الجنرال (جيم ماتيوس) قبل أن تتغير المعادلة خلال اقل من أيام، ويتناسى ترامب التحالف الكوردي ضد داعش، ويفتح الأبواب مع أردوغان من خلال صهره وابنته (كوشنير-إيفانكا) اللذين كانا على علاقات تجارية واسعة مع صهر أردوغان ( سلجوق بيرقدار- سمية أردوغان)، وبها فضل دونالد ترامب المصلحة الاقتصادية العائلية على الإستراتيجية الأمريكية في سوريا، ودخل على أثرها في أخطاء تاريخية ساذجة عن الكورد، خاصة عندما حاول تبرير التغيير الفاضح والمفاجئ في موقفه، كالقول أن الكورد (وكأنهم دولة) لم يشاركوا أمريكا بالهجوم على ألمانيا في النورماندي والمعروف بـ (د ديي).
مشروع الانسحاب الذي يريد مجموعة من الجمهوريين إحياءه عن طريق السناتور (راند بول) علماً أنه من القلائل الذين كانوا يدعمون القضية الكوردية مع سناتور ولاية أريزونا المتوفي (جون مكين) الذي كان على خلاف حاد مع دونالد ترامب، ولـ راند موقف قوي عام 2011 عندما صرح بأن “أكراد العراق أثبتوا أنهم شركاء موثوقين عن طريق دعم مصالح الولايات المتحدة في كل مرة طلبنا فيها حضورهم ومساعدتهم”. وأعرب عن استعداده لجعل ذلك جزءاً من حملته لانتخابات الرئاسة.
والموقف الجاري هو مجرد صراع مع الديمقراطيين أكثر من أن يكون دعم لمصالح أمريكا، يواجهها إدارة بايدن عن طريق مجموعة بينهم (مايكل روبن) وسفير أمريكا السابق في سوريا (روبرت فورد) وغيرهم الذين دعموا حينها وزير الدفاع (جيم ماتيوس) الذي استقال في اليوم الثاني بعد انسحاب دونالد ترامب عام 2018 من سوريا، وتم حينها تقويض اتفاقية ترامب- أردوغان، فظل الوجود الأمريكي في المنطقة، لكن وكرد فعل سلبي صرح دونالد ترامب حينها عدة تصريحات فجة وساذجة بحق الكورد، كقوله بانه يستخدمهم ضد داعش مقابل الأموال، وأنهم هناك لحماية منابع النفط، وغيرها، وجلها ظهرت تحت ضغط الدبلوماسية التركية، وكرد فعل على مناهضيه من الديمقراطيين.
أمريكا لا تزال تدفع ضريبة الموقف الخاطئ والضحل إستراتيجيا، والتي أدت إلى خسارة القوات الأمريكية لبعض قواعدها في المنطقة، والاحتلال التركي لبعض المناطق ودخول القوات الروسية إلى شرق الفرات، واحتلال مطار قامشلو، ومنافسة القوات الأمريكية في مناطق الإدارة الذاتية، برا وجواً.
المنافسة قوية في الأروقة السياسية الأمريكية، فقد بدأت تظهر نداءات على أنه يتوجب تطبيق تجربة الانسحاب من أفغانستان، وكيف تمكن الطالبان بعدها وبمدة قصيرة القضاء شبه التام على منظمة داعش، وعليه فإن قوات أبناء المنطقة وبدعم أمريكي، لديها قدرة القضاء على أي ظهور لداعش، ولا داعي للتواجد العسكري هناك.
تقف وراء هذا التحرك اللوبي التركي، وهي من ضمن استراتيجية التوافق بينها وبين روسيا وإيران، كل حسب مصالحه، روسيا تهمها السيطرة على سوريا، وإيران السيطرة على الدولتين وحرية الحركة إلى حدود لبنان وإسرائيل، وتركيا احتلال مناطق الإدارة الذاتية والقضاء على الـ ي ب ك وقوات قسد، ولن يتم أي من هذه المخططات مع الوجود الأمريكي حتى ولو كان بقوات لا تتجاوز 1000 جندي في سوريا و2500 في العراق، ولكن خلفهما يقف الدعم السياسي العسكري الأمريكي المرعب.
هذه المصالح التي تتقاطع أو تتعارض مع مصالح القوى الكوردستانية في الجزئين، والتي يتطلب التحرك على أسسه، وفي مقدمتها العمل على تمتين تقاطع المصالح مع الوجود الأمريكي أين كانت سوياتها، وعدم الانجرار إلى الترويج الخاطئ والتي على الأرجح تدخل في مصلحة المتربصين بالكورد، وربما تقف خلفها تركيا، وهي أن عدم اعتراض أمريكا على القصف التركي الإجرامي لغرب كوردستان يتطلب موقفا معاديا من أمريكا أو يجب قطع العلاقات معها، أو حتى عدم الاشتراك معها في محاربة داعش! تحت منطقة الصداقة مع أمريكا، وتناسي السياسة وحيث المصالح.
المنطق الذي تتحرك إيران وتركيا على أسسه بخباثة مرعبة، فعلى سبيل المثال، قيام الميليشيات الإيرانية في الأيام الماضية بقصف القاعدة الأمريكية في رميلان، وهي منطقة كوردية شبه مطلقة، لغايات خبيثة، منها:
1- إيهام أمريكا على أنه هناك قوى كوردية تتعامل مع المقاومة الإسلامية ضد الوجود الأمريكي.
2- محاولة زعزعة الثقة الأمريكية بالقوات الكوردية المتحالفة معها، وخاصة قوات قسد وحيث الإدارة الذاتية، والبيشمركة في جنوب كوردستان.
3- الطعن في المفهوم المثبت لدى الأمريكيين على أن الشعب الكوردي هو الوحيد الذي يوثق به في المنطقة.
4- وعلى أن الميليشيات الإيرانية لها القدرة على ضرب الوجود الأمريكي في أية منطقة كانت، حتى في المناطق الكوردية الأكثر أمانا.
خلافا لكل هذه فالولايات المتحدة الأمريكية تدرك وبعمق على أن تخليها عن المنطقة، تزعزع إستراتيجيتها، وستؤثر حتى على دعمها لأكرانيا، وإسرائيل، وستضعف من تأثيرات الحصار الاقتصادي على إيران وروسيا وسوريا، وبالتالي ستتحكم بالمنطقة الدول الثلاث التي عقدت أكثر من 18 مؤتمرا في أستانة وسوجي للقضاء على النهوض الكوردي، وتدمير مكتسباته، ومن ثم السيطرة على المنطقة العربية، وهي من احد اهم مراحل تقويض الإمبراطورية الأمريكية اقتصاديا وسياسيا هناك.
علما بأنه يجب التوقف على ما جرى بين (جو بايدن) و(شي جين بينغ) الرئيس الصيني في مدينة سان فرانسيسكو قبل أسابيع، والذي دام قرابة أربع ساعات، وقد سيطرت العلاقات الاقتصادية وتوزيع المصالح على غيرها من الاتفاقيات، بالتوافق مع قضية جزيرة تايوان. ولربما كانت مصالح الدولتين في الشرق الأوسط من العناوين الرئيسة في الحوار. وهنا يظهر السؤال هل هناك احتمالية الانسحاب الأمريكي العسكري أو بالعكس تواجده، مقابل السماح للتمدد الصيني الاقتصادي في المنطقة وعدم مساعدة روسيا. وبالمقابل قد تطلب أو تضغط على إيران للحد من عملياتها مقابل تخفيف الحصار الأمريكي عليها.
وكما نعلم فقد أهملوا الوجود الروسي في الحوار، أي عمليا أمريكا تعاملت مع الصين واستمرت في عزل روسيا، أو لم تحاول فتح أبواب الحوار معها، لا في المجال الاقتصادي ولا السياسي، مثلما روسيا ظلت صارمة في موقفها، وتستمر في تحريض إيران وتركيا لخلق جبهات مع أمريكا في مناطق نفوذهم، وكوردستان هي نواة المنطقة، فأي صراع بينهم على الأرجح ستؤثر على كوردستان بشكل مباشر، واحتماليات النجاح أكثر بكثير من الفشل، بعكس الانسحاب الأمريكي والتي ستعيد بكوردستان إلى عالم الظلام السابق، خاصة وإن إعداد المتربصين كثر وينتظرون الفرصة المناسبة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
7/12/2023م