الامة العراقية تعني الامة التاريخية بكل تفاصيلها ؛ فالجغرافيا الحالية لدولة العراق لا تمثل العراق التاريخي , اذ سلبت واقتضبت اراضي عراقية شاسعة لصالح دول الجوار بفعل الاحتلالات الاجنبية ولاسيما اتفاقيات الاحتلال العثماني و اتفاقية سايكس بيكو, وهذا لا يعني انسلاخ مواطني تلك الاراضي عن هويتهم الحقيقية الا وهي الهوية العراقية واما بخصوص الاراضي المسلوبة والتي تعرضت للتغيير الديموغرافي من خلال ابادة او تهجير سكانها الاصلاء من ذوي الجذور العراقية العريقة فلابد من استرجاعها وضمها للعراق كما كانت ؛ وعلى الرغم من كل سياسات التغيير الديموغرافية وفرض الامر الواقع والممارسات التي تهدف الى اقتلاع جذور السكان العراقية من قبل بعض دول الجوار ؛ لا زال البعض بل الاغلب يقرون بكونهم عراقيو الاصل .
ومفهوم الامة العراقية يتجاوز الأجيال المتعاقبة لأنه موجود عبر القرون المتتالية وما المواطنين إلا مسافرين عابرين، فالأمة هي كل الاجيال السابقة والمعاصرة بل واللاحقة أيضا، أي هي كل المواطنين الأحياء والأموات بل ومن لم يولد بعد فهي الماضي والحاضر والمستقبل، فهي تسمو على الاقوام والمكونات الحالية للدولة ووجودها يسمو على وجود تلك الاقوام والمكونات ، لأنها توجد قبلها ومعها وبعدها ، أي أنها مستمرة بعد انقضاء ذلك المكون او هجرة واضمحلال تلك القومية او بروز هذه الجماعة ؛ فالأمة هي التركيبة التي يتحقق فيها وبموجبها الامتداد التاريخي و القانوني والمتضامن بين الاجيال المتعاقبة ودوام وثبات المصالح الكبيرة المشتركة ضمن جغرافيا محددة ؛ ولكن هذا لا يعني عدم انضمام العراقيين الاصلاء المنتشرين في بقاع المعمورة تحت راية الامة العراقية ومفهومها , فالعراقيون في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة , حيث يجب مناصرة العراقيين الاصلاء المنتمين للأمة العراقية في حدود الإمكانات المتاحة وإن لم يكونوا مواطنين ضمن جغرافيا العراق ونظامه السياسي , اذ حان الوقت لانشغال العراقيون بقضاياهم الوطنية فحسب , وكل اهتمام في شؤون هذا البلد او ذاك وكل دولار ينفق على هذه الجماعة او تلك انما هو على حساب مصلحة العراق والعراقيين والتفريط بشؤونهم الداخلية , وقد اثبت التاريخ وكذلك التجارب السياسية ان الدعوات والشعارات الاممية والقومية والدينية والهلامية والطوباوية تتعارض وتتقاطع مع مصلحة العراق ومكوناته الاجتماعية بل طالما جرت الويلات والنكبات للامة العراقية .
وقد يجتمع ابناء الامة ويرتبط افرادها بروابط واضحة مثل الدين او اللغة او الجنس او التاريخ او النسب المشترك او الثقافة او العادات والتقاليد كما هو الحال في وسط وجنوب العراق , وقد يرتبط اعضاءها بالجغرافيا الواحدة والتاريخ والمصالح المشتركة فقط .
وللنهوض بالأمة العراقية من جديد لابد من مراعاة امرين في غاية الاهمية ؛ الاول : محاولة استرجاع كافة الاراضي العراقية التاريخية بشتى الطرق والسبل , والمحافظة على حدوده الحالية وعدم السماح لأي مكون من التفريط بالأراضي والحدود العراقية او تقسيم او تجزئة العراق مهما كلف الامر ؛ والثاني : قيام نظام سياسي عراقي مستقل يمثل الامة العراقية وذلك من خلال اعطاء حقوق المواطنة وفرض واجباتها من خلال الانتماء للجغرافيا العراقية المعروفة والتاريخ العراقي العريق ؛ اذ ان مفهوم المواطنة والهوية العراقية يتجاوز العرق والدين والمعتقد واللون واللغة والقومية … .
فالمواطنة العراقية تعني المساواة بين المواطنين بغض النظر عن القومية او الديانة وما شاكلهما , ما دام هؤلاء من سكان العراق الاصلاء او ممن يقروا بأصالة وعراقة المكونات العراقية الوطنية ذات الجذور التاريخية القديمة وتقديمها سياسيا وثقافيا على باقي المهاجرين الجدد من ذوي الاصول الاجنبية والغريبة ؛ باعتبارها تمثل الهوية الوطنية الحقيقية ؛ او فنقل : الاخ الاكبر والضامن الرئيسي لوحدة العراق والمدافع عنه .
ولعل التحدي الاكبر الان امام انبثاق وانبعاث مفهوم الامة العراقية ونظامها السياسي العادل ؛ ظهور الهويات الفرعية – وعرضها على انها المعيار الوطني والتاريخي للعراق – لبعض المكونات السكانية ذات الجذور الاجنبية والغريبة , و تعالي اصوات الأمميين والقوميين والدينيين ومن لف لفهم للتغطية على الهوية الحقيقية للعراقيين وطمس معالم العراق التاريخية واسكات الاصوات الوطنية الغيورة ؛ وعليه لابد من التصدي لاتباع الخط المنكوس وكشف مؤامراتهم .
فقد سعت انظمة الفئة الهجينة العميلة طوال 83 عاما على ترسيخ معادلة مغلوطة مفادها ان : الامة العربية او الاسلامية تعني الوطن اي انها تساوق مفهوم العراق والهوية الوطنية ؛ ويشهد الله على ما في صدورهم من خيانة للامة الاسلامية والعربية والعراق , فهؤلاء العملاء السنتهم تقطر عسلا قوميا وشهدا اسلاميا وقد امتلأت قلوبهم سماً زعافاً ، فما هم الا عملاء اذلاء للاستعمار والقوى الدولية ؛ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .
فأن تدين بالولاء للأمة وأن تفزع وتساعد أبناء الأمة ؛ لا يعني أنك تلحق الضرر بالوطن أو المواطن او بالدولة، ولطالما علمونا أن وحدة الأمة هي المنتهى والمطلب الذي نسعى له، ولتحقيقه نبذل الغالي والنفيس، وأن ذلك لا يتعارض مع حبنا للوطن وانتمائنا له؛ فأوطاننا جزء من الأمة في نهاية المطاف , وهكذا تم تبديد ثروات العراقيين ولاسيما الجنوبيين منهم على شذاذ ومرتزقة واعراب الامة التي طالما تامرت على العراقيين وشاركوا في الحاق اكبر الضرر بهم حكومات وشعوب ؛ فلا تستغرب من الفلسطينيين الذين طالما اطعمناهم وأيونهم وصرفنا عليهم المليارات وقاتلنا نيابة عنهم ؛ واذ بردة فعلهم انهم كانوا من الجلادين والمجرمين الذين يسومون العراقيين سوء العذاب في السجون الصدامية وبعدها ارسلوا لنا الانتحاريين والمفخخات التي حصدت ارواح الاف الابرياء من العراقيين الاصلاء , والعجيب ان عملياتهم الارهابية وصولاتهم الاجرامية في العراق لا تقارن بتاتا بمقاومتهم للصهاينة كما يدعون .
اجبرونا على الاختيار بين الامة أو الوطن، ومن اختار أحدهما اعتبر خائناً للآخر , غيبوا هويتنا الوطنية العريقة لصالح هوية هلامية لا احد يعرف معالمها , عيشونا ب اوهام وهويات ممزقة وشعارات كاذبة , اذ طالما هرع العراقيون الغيارى والسذج لمساعدة هذه الدولة او تلك ونجدة هذه الجماعة او القتال مع ذاك الفريق ؛ خدمة لأجندة دولية مشبوهة ومسرحيات سياسية منكوسة بعد أن أقنعتهم الحركات الاممية والقومية والدينية والسلطات السياسية بأنها تمثل قيم الحق والامة العربية او الأمة الإسلامية او المذهب ، وراحوا ضحايا مؤامرات وحروب لا تعنيهم وليس لهم فيها ناقة ولا جمل .
قد جرى نقل معادلة غير واقعية لأجيالنا العراقية وهي أن استحقاقات الأمة والدولة والوطن لم ولن تتعارضا، ونحن المسؤولون الآن عن تفكيك هذا المنطق المنكوس من جديد وإعادة صياغته للأجيال القادمة ؛ اذ لا زال بعض شبابنا يتحمس لنصرة الجماعات الدينية باعتبارها تعمل على خدمة الأمة الإسلامية، وهناك آخر يخوَن هذه الفئة لأنها تضع يدها في يد من يعادي دولتها و وطنها وتعتبره أقرب لها من أنظمة وطنه التي هي في نظره تخدم الدولة والوطن و لا تخدم الأمة والطائفة ، ونحن بتجاهلنا هذه المعضلة الفكرية وعدم عنايتنا بمعالجتها فكرياً وعدم حسمنا لها سنظل تحت رحمة دول أجنبية وغريبة تتبنى مفهوم «الأمة» وتنصب به فخاخ التجنيد لشبابنا العراقي .(1)
ويجب عدم الالتفات إلى مشاكل وازمات الشعوب والاقوام الاخرى – لان اهل مكة ادرى بشعابها وللبيت رب يحميه كما يقولون – ، و لأنها مشاكل خارجية ؛ أي خارج حدود الوطن ، ونحن لنا من المشاكل ما يغني عن الالتفات ولو إعلاميا، إلى مشاكل خارج حدودنا بل وفوق طاقتنا ..!
كل هذه الدعوات الهلامية المطاطية عديمة اللون والطعم والرائحة والمنكوسة تسببت بتصدع وتغييب الهوية العراقية العريقة ؛ اذ دقت تلك الدعوات المنكوسة اسفينا بين تاريخ العراق والعراقيين وبين حاضر العراق و واقع العراقي المعاصر .
وكان في خوض انظمة العراق الهجينة ولاسيما النظام البعثي الصدامي التكريتي حروباً بالأصالة والوكالة وتورطها المباشر وغير المباشر في إزهاق أرواح مئات الآلاف من العراقيين بالتعاون مع القوى الاستعمارية والمخابرات الدولية وبعض الانظمة العربية الحاقدة ، الأثر البالغ في احتدام التصدع في جسد الأمة العراقية وارتفاع اصوات العراقيين الاحرار وتصاعد مشاعر الحقد واحتداد الكراهية لدى العراقيين اتجاه بعض الدول وحكامها بل وحتى شعوبها .
اذ عملت انظمة الفئة الهجينة ولاسيما النظام العارفي والبعثي الصدامي على اتخاذ الشعارات القومية والدعوة للامة العربية الواحدة مطية لتحقيق مآرب سياسية ومصالح ضيقة ليس الا ؛ اذ توفر لهم الدعم الشعبي والاعلامي والسياسي العربي لمواجهة الداخل العراقي المتمرد والحانق على السلطة , و كانت تلك الدعوات المنكوسة والكاذبة والمصطنعة على حساب تماسك الأمة العراقية ووحدتها، و على حساب الإساءة إلى العراق والعراقيين وتفريغ العراق من الاصوات الوطنية الاصيلة والدعوات العراقية النبيلة ونهب ثروات الوطن لصالح الغرباء والدخلاء والاجانب ؛ فقد ادخلوا البلاد في دوامة الازمات والحروب اذ ازهقت فيها ملايين الضحايا وبددت المليارات ما كان لها أن تحدث لو ترك العراق لحاله وتركوا العراقيين على هويتهم الوطنية العراقية الحقيقية المتماسكة الصلبة .
ولعل بعض المنكوسين يتهمنا بمعاداة العروبة لأننا ندعو للامة العراقية وكالعادة بما ان هؤلاء خونة وعملاء ومرتزقة للأنظمة العربية يعتقدون بضرورة منافاة مفهوم الامة العراقية للعروبة كما يدعون ومثلهم دعاة الامة الاسلامية ونصرة المذهب ؛ بل على العكس اننا نؤكد على ان العراق تسكنه اغلبية عربية منذ القدم حتى قبل دخول الاسلام اليه وثقافته الحالية ثقافة عربية ولسانها عربي مبين ؛ بل نحن من علم العرب والاعراب والعجم اصول النحو وقواعد الصرف وبينا لهم معاني الكلمات – المدرسة البصرية والكوفية والبغدادية النحوية شاهد على ذلك – كما علمنا من قبل البشرية القراءة والكتابة ؛ ولكننا نؤكد في الوقت نفسه باننا اباء العرب واننا جماجم العرب فنحن الرؤوس وغيرنا الذيول , ونحن الاصلاء وغيرنا الموالي والادعياء , ونحن قطب الرحى , ونحن من وضعنا قواعد اللغة العربية , باختصار نحن اسياد العرب وكبارهم , ونحن المحور, ونحن السفينة التي ينجو من يركبها ويغرق من يتخلف عنها .
وليكن في علم الاخرين اننا لم ولن نقبل بأن نكون ذيول او اتباع او خدم او مرتزقة او ابواق اعلامية لهذا النظام العربي او ذاك او نعمل لهذه الدولة او تلك الجماعة بحجة المذهب والطائفة ؛ فالأمة العراقية هي العروبة بعينها , وهي منبع التشيع العلوي والتسنن الحنفي ؛ وعليه لابد من الاهتمام بعرب العراق والاعتناء بهم – اما عرب الصومال ودارفور فهم اعرف بأنفسهم منا , فلا شان لنا بهم – وما صيحات كلاب ( القومجية) ومرتزقة الانظمة العربية الا لتغييب الهوية الوطنية العراقية والقرار السياسي الوطني المستقل وربط مستقبلنا بالغير بحجة الامة العربية والقضية الفلسطينية او بذريعة المذهب والطائفة .
اذ لم يألف العراقيون منذ تأسيس دولتهم الحديثة في مطلع عشرينيات القرن الماضي دستور يراعي مصالحهم بالدرجة الاولى ، فكل القوانين والآراء السياسية التي سادت كانت تخالف العديد من المعطيات التي شكلت واقعهم الاجتماعي وعاداتهم وثقافتهم واحتياجاتهم وارتباطاتهم الاقتصادية والدينية المتشابكة وطموحاتهم الوطنية .