السبت, يونيو 14, 2025
Homeاراءبمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة المربي الشيخ صبري مراد شيخ نذير:ب.د.خالد محمود...

بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة المربي الشيخ صبري مراد شيخ نذير:ب.د.خالد محمود خدر

 

سيرة وتعقيب مستفيض عن جوانب أخرى تناولته السيرة

في مثل هذا اليوم التاسع عشر من شهر مايس عام 2008 ، غاب عنا المربي والمثقف الموسوعي الشيخ صبري مراد شيخ نذير، أحد أعلام بحزاني ومناراتها الفكرية. لم يكن الراحل مجرد معلم أو شيخ تقليدي، بل كان من القلائل الذين جمعوا بين غزارة المعرفة، ونُبل الموقف مع نزعة واضحة إلى السلام ، والتواضع الفطري، في زمن كان فيه الفكر الحر يكلّف صاحبه الكثير.
المعلم والمربي الشيخ صبري بن الشيخ مراد نذير، من عائلة “البيشمام” في بحزاني التابعة لناحية بعشيقة الواقعة شمال شرقي مدينة الموصل العراقية. وتنحدر عائلة البيشمام من نسل الشيخ حسن بن الشيخ عدي الثاني بن الشيخ أبو البركات بن الشيخ صخر شقيق الشيخ عدي الأول الذي تنسب له الديانة الايزيدية لتسمى بالديانة العدوية البعض ممن كتب عنه في زمانه او بعد ذلك، فيما يعد مجددا لها عند الكثير من الباحثين حديثا عن هذه الديانة.
لم يكن الشيخ صبري مربّيا فحسب، بل كان مثقفا موسوعيا ملمًّا بجوانب متعددة من العلوم والمعرفة ، من أدب وتاريخ وفلسفة إلى فيزياء وكيمياء ورياضيات وعلوم الحياة، وغيرها من مجالات الفكر.
كان في شبابه سياسيا و مناضلا يساريا، ضحّى من أجل مبادئه بمستقبله الأكاديمي. إذ كان أول طالب إيزيدي يُقبل في دار المعلمين العالية (كلية التربية لاحقا) في بغداد في أربعينيات القرن الماضي، ليُفصل لاحقا بسبب نشاطه السياسي اثر انضمامه إلى الحزب الشيوعي العراقي بعد ان فاتحته بذلك السيدة سعاد خيري، التي تنتمي إلى عائلة يهودية عراقية، وكانت من أوائل المنتسبين للحزب، وتزوجت لاحقا من زكي خيري، الذي أصبح سكرتيرا للحزب ، كما ورد ذلك في مقال للسيد صباح كنجي نُشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 16 حزيران 2009، تحت عنوان “من ذاكرة الشيوعيين في بحزاني”، وتضمن لقاءات مع المرحومين الأستاذ المربي إلياس خلو، الأستاذ المربي مال الله ديوالي، وغيرهما.
اول تعيين للشيخ صبري بصفته خريج إعدادية كان في 1948/12/1 بوظيفة في دائرة مالية قضاء الموصل والتي استمر فيها إلى سنة 1949 في مركز قضاء الموصل ، ثم نسب إلى القوش شمال غرب مدينة الموصل بدائرة تابعة للمالية، مسؤولا عن جباية الضرائب ومنها ضريبة العُشر من المحاصيل الزراعية.
قبل أثناء ذلك في دورة تربوية لإعداد المعلمين في الموصل ، وتعين أثرها معلما في في مدرسة سنجار الأولى من 1956/1/25الى 1956/1/10/ بعدها نقل الى مدرسة جداله واستمر فيها الى1959/3/29 ، مدرسة قرية جدالة الواقعة غرب مدينة سنجار. وبالمناسبة فإن جدالة إحدى قرى عشيرة الفقراء التي عرفت في فترة الحرب العالمية الأولى بزعيمها حمو شرو لايوائه وحمايته المهاجرين الارمن الهاربين من مجازر الجيش العثماني والقوات الحميدية التي أبادت الملايين منهم. ورفض حمو شرو طلب قائممقام سنجار بتسليم هولاء المهاجرين ، ليتطور الموقف إلى أن يبلغ هذا القائممقام والي الموصل العثماني بشن حملة عسكرية على ايزيديي سنجار ، الذي أرسل فرقة عسكرية إلى منطقة الصولاغ لتشن لاحقا هجمات على القرى الايزيدية ، ولكن اعلان وقف إطلاق النار في 1918/11/11 في الحرب العالمية الأولى ، حال دون ذلك ، ليتم بعدها سحب القوات العثمانية من عموم ولاية الموصل ، بأمر من القوات الانكليزية التي كانت على مشارف مدينة الموصل ، ومنها الفرقة المرابطة في الصولاغ ، بعد أن اعلم مسبقا وفد برئاسة اسماعيل بك جول المرسل إلى بغداد من قبل حمو شرو حكومة الانتداب بتفاصيل ما حدث واستعداد الجيش العثماني لشن حملة على الايزيديين ، كما جاء ذلك في كتاب اسماعیل بک چول بك ، اليزيدية قديما وحديثا ، الذي عني بتقديمه وإعداد توضيحات له الدكتور قسطنطين زريق ، والكتاب طبع في المطبعة الأميركانية ، بيروت سنة ١٩٣٤.
نقل الشيخ صبري إلى مدرسة سنجار الثانية إلى 1959/3/29 واستمر بالتدريس فيها إلى 11/10/1959. بعدها نقل الى مدرسة دوبردان التي تم فتحها وقتها حديثا و التابعة إلى ناحية بعشيقة ليستمر بالتدريس فيها إلى سنة 1961. ثم نقل بعدها إلى مدرسة بامرني في قضاء دهوك التابع إلى لواء الموصل وقتها ، واستمر بالتدريس فيها إلى سنة 1968 لينقل بعدها إلى مدرسة بروشكي سعدون ثم إلى مدرسة ركابة حمدان الواقعة أعلى قرية الأفضلية ، على الطريق الرابط بين عين سفني ومدينة الموصل ، حيث استمر في التدريس فيها الى 1981/8/24 حيث قدم طلبا للحالة على التقاعد.
منذ إحالته على التقاعد، تحوّل مجلس الشيخ صبري في بحزاني إلى ملتقى فكري وثقافي يجتمع فيه اصدقائه ومريدوه والباحثين عن فرصة لسماع الكلمة وإبداء الرأي من مختلف الأعمار والتخصصات، يتبادلون فيه المعرفة والنقاشات العميقة. وقد كنتُ من روّاد هذا المجلس في تسعينيات القرن الماضي، ووجدتُ فيه شبها بملتقيات ثقافية عريقة مثل صالون مي زيادة، وندوة العقاد، والرابطة القلمية التي أسسها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وإنْ بفارق في نوع الحضور وظروف الزمان والمكان.
كان الشيخ صبري مستمعا نادرا، ينصت بعناية لكل جديد يُطرح أمامه، بغضّ النظر عن سنّ المتحدث أو خلفيّته، وكان يثير الأسئلة ويخوض النقاشات بحيوية لا توحي بغير شغف شاب في مطلع طريقه. من أقواله التي لا أنساها، قوله لزوّاره من المهتمين بالكتابة والبحث عن تاريخ الإيزيدية:
“ينبغي على الجميع أن يبحثوا ويكتبوا ويملأوا حتى ما بين السطور”. في إشارة منه إلى ضرورة التعمق في قراءة أي كتاب او بحث اومنحوتة او رمز اثري يمكن منه الخروج برأي او معلومة جديدة تخص المعتقد والمجتمع الايزيدي ، ولعله كان يشير في ذلك إلى ما فعله الباحث والكاتب جورج حبيب في بحثه عن الايزيدية.
لقد أسهمت كتاباته في مجلة “التراث الشعبي” البغدادية في السبعينيات، في تأسيس الخطاب الجاد حول تراث الإيزيديين، خاصة وأن رئيس تحريرها آنذاك ، الباحث والكاتب جورج حبيب ، كان يشجع النشر بما يخص الايزيديين ، كونه من المهتمين الجادين في ذلك منذ صغره وهو المنحدر من مدينة القوش الواقعة على خدمات سفوح الجبل الذي تضم امتدادات سفوحه وسهل الممتد قبالتها العشرات من القرى الايزيدية. ويعتبر الباحث جورج حبيب أول من أصدر كتابا تناول الايزيدية تاريخا ومعتقدا بأسلوب علمي رصين ، بعيدا عن فرض الرأي المسبق لغاية في نفس صاحبه والمنقول عن من سبقه دون تمحيص وتحليل. وكتابه هذا الذي أنصف فيه الإيزيدية وضعه تحت عنوان “الإيزيدية بقايا دين قديم” ليغيّر بطريقه تحليله وبحثه عن الايزيدية وجهة النظر السائدة في الأبحاث السابقة، وإبعاد البحث عنها من الفرض المسبق للرأي إلى المنهج العلمي الرصين الذي ربط وقارن من خلاله الموروثات والعادات والتقاليد ومراسبم الاعياد الايزيدية المعاصرة ومواعيدها وغيرذلك مما تمكن من الحصول عليه من معلومات عن الدين الايزيدي من أفواه معتنقيه وغيرهم ، اقول ربط ذلك بمعتقدات حضارات وادي الرافدين القديمة من السومريين والبابليين والاشوريين ليخرج بنتيجة مفادها أن جذور المعتقد الديني الايزيدي تعود إلى معتقدات حضارات وادي الرافدين ، وما معبد ايزيدا القريب من بابل ومواعيد الطقوس الدينية واحتفالات رأس السنة البابلية والايزيدية المتطابقة في الأول من نيسان إلا دليل خرج به المرحوم جورج حبيب عن ذلك.
ظلّ الشيخ صبري ينهل من الكتب حتى وفاته، وكان يكلفني أحيانا باستعارة كتب يحددها لي بإسم المؤلف وعنوان الكتاب من المكتبة المركزية للجامعة ، عندما كنت أستاذا في كلية الهندسة بجامعة الموصل. ومن تلك الكتب أذكر كتابا للفيلسوف سبينوزا، وآخر لمعروف الرصافي، وثالثا لابن رشد وغيرهم الكثير من الكتب في مجالات مختلفة. كان يقرأها بنهم ثم يناقش مضامينها في مجلسه، قبل أن يعيرها لزوّاره ، بعد يطلب مني تجديد الإعارة.
كان كثير التساؤل في موضوعات فلسفية وعلمية عميقة: من أجزاء الذرة الجديدة، إلى لغة البرمجة، إلى نظريات أينشتاين وداروين، والاستنساخ البيولوجي، والفضاء، ناهيك عن التراث الإيزيدي. وكان زوّاره من مختلف المشارب: علماء، شباب، شيوخ، رجالات دين، وجهاء، وحرفيون. ومنهم المرحوم علي صادق، والد السادة حسين وصابر وفالح، من مواليد سنة 1914 سنة “السفربرلك”.
كنت ايضا استعير له كتابا انتقيه له بعدما ان كنت اجده من احاديثه المسبقه عن ان مضمون ذاك الكتاب يقع في دائرة اهتمامه. بعدها كنت اجد الشيخ سرعان ما كان ينتهي من قراءته والبدء بنقاشات حوله في مجلسه.

من جانب آخر كنت الاحظه في كثيرمن الاحيان انه يقوم بإثارة تسائل عن موضوعا فكريا او علميا او عن اجزاء الذرة المكتشفه حديثا وقتها (عدا البروتونات والنيوترونات والإلكترونات) او عن لغه البرمجه وطريقه عمل الحاسوب وفي اخرى عن نظرية أينشتاين وفي ثالثة عن داروين أو عن مستجدات الاستنساخ البايولوجي الاول الذي بدا وقتها باستنساخ الماعز المعروفة باسم دولي ، وفي اخرى عن الفضاء ليجعل من الجميع يسبحوا او يحلقوا بأرواحهم في عالم فضائي بين الكواكب والنجوم ، ذلك عدا ما يدور من أحاديث ونقاشات أخرى حول تاريخ وتراث الايزيدية.

كان يتردد عليه الكثير من المهتمين الايزيديين وغير الايزيديين لبيان رأيه في مواضيع تهمهم ، وأذكر هنا أنه ذكر لي قبل سنين معدودة من وفاته أن جاءه احد الشباب الايزيديين من خارج منطقته ليطلب منه كتابة مقال عن الايزيدية لينشره باسمه اي اسم ذلك الشخص،ليكون رد الشيخ ممتنعا ويرده بالقول: ولما لا يكون المقال باسمي طالما ساكتب المقال حول الموضوع الذي تطلب مني كتابته.

الجميل أن زائره كان يجد نفسه مع ضيوف له من مختلف الأعمار والتخصصات الحياتية والعملية ،إذ نجد بينهم حاملي الشهادات العلمية المختلفة وكبار السن من رجالات المنطقه من رجال دين ووجهاء وأصحاب حرف مختلفة. وتجد ايضا من هو من فئة الشباب أو من كبار العمر مواليد بعضهم تعود الى السنة التي كانت تعرف بسنة السفر برلك اي سنة النفير العام التي بدات فيها الحرب العالمية الاولى بين الدولة العثمانية وحليفتها المانيا ضد بريطانيا وفرنسا والامبراطورية القيصرية الروسية . وكان ضمن هؤلاء الرجال الكبار بالعمر المرحوم علي صادق والد كل من السادة حسين وصابر وفالح

تحضرني قصتين واقعيتين لطيفتين اسردها للقارى لانقله الى اجواء مضيف الشيخ في ذلك الزمان القريب البعيد واللتان تدوران حول مواضيع اجتماعية ولكنها تحمل شيئا مهما من تاريخ الماضي البعيد لمنطقة بحزاني وبعشيقه وعموم العراق.

اول القصتين بدات بسؤال بدر مني للمرحوم علي صادق عن مواليده ، وقد صادف وجوده في احدى زياراتي للشيخ (مع ان العم المرحوم علي كان كثير التردد على مضيف الشيخ كونه من جيرانه ومريديه واعتبارات اجتماعيه اخرى )
لياتي جوابه بحديث مطول تناول فيه رحله في اجواء ذلك الزمان سردها إلى الحضور بفطرة جبل عليها جيل زمانه ونقلا عن والده الذي تم سوقه عنوة مع مجموعة الشباب من ابناء بعشيقة وبحزاني ، الى الخدمة العسكريه في الجيش العثماني في سنة السفر برلك. وما إن التحق والدة وبقية الشباب بدائرة التجنيد والتسويق العسكري بمدينة الموصل ، تم تنسيبهم إلى احد الافواج المشكله حديثا في معسكر الموصل ، وضم هذا الفوج امثاله من الشباب المساقين واكثريتهم من الذين أجبروا جبرا او قبض عليهم من قبل جندرمة اي شرطة الحكومة العثمانيه المحلية في الموصل ليساقوا إلى ميادين الحرب القائمة في مناطق بعيدة ، وهم جميعا على علم بأن احتماية عودتهم ثانية إلى أهلهم تقترب من نسبه الصفر. هذه الحرب عرفت بعدئذ بالحرب العالميه الاولى. تلقى هؤلاء الشباب التدريبات العسكرية اللازمة سريعا في دورة عسكرية سريعة. بعدها تم نقل الفوج المشكل من شباب مختلف مناطق لواء الموصل الى ساحات الحرب التي يخوضها الجيش العثماني مع جيوش فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية. حط الفوج اولا وعسكرت قواته في أطراف السهل القريب من القوش كأولى محطات السفر والاستراحة. جلس مع بعض والد المرحوم علي صادق نفسه واصدقائه من بحزاني وبعشيقة ، الذين سماهم بالاسم واذكر منهم شاب من بيت ابلحد سيمو من بعشيقه من الاخوة المسيحيين. اثناء احاديثهم عن تجنيدهم القسري ودورهم وعلاقتهم بما يجري في ساحات الحرب وهم اقليات دينية لا علاقة لهم بالحرب ، وهم الذين يعانون من بطش وظلم العثمانيون وجندرمتهم ، وانهم كأقليات ليس لهم مصلحه بما يجرى ، ليقرروا اثر ذلك سوية الفرار وترك مخيم الفوج ليلا الى اقرب قريه ايزيديه ومنها إلى قرى ايزيدية اخرى بالتتابع وهم يفرون اثناء الليل كي يكونوا بعيدين عن مراقبة الجندرمة العثمانية الخاصة بمراقبة ومتابعة الشباب في العمرالمؤهل للخدمة العسكرية ، وهكذا واصلوا هروبهم ليلا كي يتمكنوا من الرجوع والوصول سرا الى دورهم في بحزاني وبعشيقة في رحله صعبه دامت أسابيع مشيا على الاقدام ليلا عبر الوديان والمنخفضات والدروب المحلية غير المعروفة من قبل الجندرمة العثمانية ، رحلة هروب وعودة حكاها المرحوم ابو صابر تفصيلا بأسلوب شيق وجميل اقتربت في سردها للحكايات والمآثر الشعبية المتداولة في ذلك الزمان. بعد جهود مضنية تمكن هؤلاء الشباب من الوصول اخيرا بعد مبيت في النهار والتنقل ليلا في قرى خطارة وسريجكا وشيخكا وعين سفني وكندالا و مهد وغيرها ليتسلقوا اخيرا في إحدى الليالي سفوح جبل مقلوب وبعده جبل بحزاني ، ليصلوا في ساعات الفجر الأولى من أحد أيام سنه ١٩١٤ الى مشارف عين ماء بحزاني الواقعه اسفل سفج جبلها حيث كانوا على علم مسبق ان الجندرمه لا يزالوا يبحثون في ازقتها ودورها عن غيرهم من الشباب ليسوقوهم كما ساقوهم عنوة الى الحرب. بعد كثير من الترقب على مقربة من هذه العين وقبيل الفجر لمحوا امراة قادمة باتجاه عين الماء لتملا جرتها ، وبمجرد ان اصبحت على مقربة منهم ، رموها بقطعه حجر صغيرة ليلفتوا انتباهها وهم متخفين بين الصخور ويسئلوها بصوت خافت عن الوضع في المنطقه وعن تواجد الجندرمه العثمانيه وهذا كان مدعاة لجعل المرأة تجفل اولا خوفا بعد رميها بالحجارة ، ثم ما لبثت ان اصبحت مطمىنة بعد ان ناداها احدهم بصوت منخفض وعرفها بنفسه واصدقائه ، وفرحت ما ان علمت انهم رجعوا هاربين من المخيم العسكري خفية ، وسرعان ما بشرتهم برحيل الجندرمه العثمانيه عن المنطقة قبل ايام ، ثم بشرت المنادي وهو المرحوم صادق بان زوجته قد انجبت ولدا ، وهو الذي سمي لاحقا عليا اي المرحوم علي ابو صابر صاحب الحديث الموجه كجواب لي عن سؤالي عن تاريخ ميلاده ، الذي تبين كما هو واضح انه كان في سنة السفر برلك اي سنة 1914 سنة بدء الحرب العالمية الأولى.

اما القصة الحقيقية الثانيه ، فقد سمعتها في احدى زياراتي الاخرى المشار لها للشيخ صبري حيث كان مضيفه حافلا يومها بزواره لزيارة ابنه المريض المهندس مراد الذي توفي لاحقا في سنة 2003 ، ودار حديث وقتها عن متصرف لواء الموصل سعيد قزاز في نهاية الاربعينات والذي اصبح لاحقا وزيرا للداخلية في آخر حكومة في العهد الملكي قبل أن يعدم بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ ويقول قبيل اعدامه : اصعد الى حبل المشنقه لأرى تحت اقدامي رؤوسا لا تستحق الحياة.وهنا أدلى الكثير بدلوه حول سعيد قزاز وملابسات إعدامه.
واذكر من ما دار في الحديث تعقيب للمرحوم العم حسن رحو من بحزاني الذي كان قد جاء لزيارة الشيخ وولده المريض. لتكون تلك الزيارة فرصه شارك بها بموضوع الحديث عن متصرف الموصل سعيد قزاز في العهد الملكي كما أسلفت ، إذ قال:
في فترة بعيده تعود الى أواسط الخمسينات في العهد الملكي اشتغلت فيها كروانجيا اي بائع متنقل ، وانه في يوم من اﻻيام كنت مع اصحابي من الكروانجية من بحزاني في طريقنا الى مناطق جبليه اعالي اتروش راكبين على الدواب المحملة بالصابون وزيت الزيتون والطحينيه لبيعها او استبدالها بالناتج المحلي لتلك المناطق، واضاف :
وبينما كنا نتبادل اطراف الحديث مع بعضنا ونحن على احد مفترقات الطرق الجبليه البدائيه الوعرة المؤدية الى منطقه اتروش واذا بسيارة قادمة في الطريق غير المبلط المؤدي إلى اتروش وسرعان ما تباطئت السياره عند رؤيه سائقها لنا ، ليقف قبالتنا محييا ومستفسرا عن مهمتنا والغرض من مجيئنا ، ثم استفسر عن ما إذا كنا قد تعرضنا لسوء اثناء رحلتنا هذه او نحتاج ﻻمر ما او مساعدة ، فجاوبناه قائلين : شكرا يا أفندي ( دون أن نعرفه) ، ﻻ نحتاج لشيء واﻻمان موجود طول طريقنا وبعد أن اطمأن على حالنا سرعان ما قاد سيارته مودعا ، وبعد قرابة العشر دقائق واذا بسيارة مسلحة للشرطه قادمه بنفس اتجاه السيارة السابقه ، وما إن شاهدونا وقفوا ايضا قبالتنا وسألنونا عن سفرتنا ووجهتنا، ثم بادر الشرطي الجالس في الامام بالاستفسار عما اذا كنا قد رأينا قبل قليل سياره اخرى قد مرت عبر نفس الطريق، فقلنا لهم: نعم ، مرت سيارة بلون كذا وكذا وسالنا سائقها واستفسر عن حالنا ثم تحرك على نفس الطريق باتجاه اتروش ، فقال لنا انه هو بعينه متصرف الموصل سعيد قزاز , ودهشنا عندها لهول الموقف نحن الذين لم نرى قبلها اكثر من شرطي او مأمور مركز ياتي الى بعشيقه من مركز شرطة برطلة (قبل تحويل بعشيقة إلى ناحية سنة 1957) ، وفوقها يسال عن حالنا واحوالنا .
الذي اريد ان اضيفه :
كم كان اﻻمان يعم العراق في ذلك الزمان حدا كانت سنه مقتل احد اﻻشخاص يشكل عند ناس منطقته (لندرة حصوله ) سنة يشار لها لتوثيق اﻻحداث.
الجدير بالذكر ولاتمام الفائدة كتبت مقالا بارعة اجزاء عن مذكرات يونس بحري في سجن ابو غريب الذي سجن فيه مع رجال العهد الملكي من رؤساء وزراء ووزراء ومدراء عامين في وزارات مختلفه وبينهم وزير الداخلية سعيد قزاز. يمكن ملاحظة طريقة التعامل مع سعيد قزاز من قبل المشرفين على السجن وموقفه من سجنه في ذلك المقال بدأ من الجزء الثاني على الرابط :https://www.ahewar.net/debat/show.art.asp?aid=860402

نعود الى موضوع حديثنا عن المربي الجليل الشيخ صبري لاضيف ان جلسائه الدائميين كانوا من اصدقاءه المقربين المربين الاوائل المرحومين الاساتذه الياس خلو ، مال ديوالي وحسن ديوالي الذين كانوا يشكلون مع المرحوم الشيخ صبري ما يمكن ان يطلق عليه بالمربع الذهبي اي الرباعي المثقف المسالم الباحث عن الكلمه الطيبه علمية كانت أم أدبية أم اجتماعية وكثيرا ما كانوا يكلفون أنفسهم للتوسط في حل أي مشكلة تقع بين ابناء المنطقة او المساهمه بتنوير الأجيال الجديدة بأهمية العلم والثقافة وغيرها من شؤون وشجون الناس.

اذكر هذا ليجد القارئ ذلك التنوع الجميل في جلساء المرحوم الشيخ صبري الذي يشبه التنوع الجميل للورود والازهار والاشجار والشجيرات الباسقة في حديقة غناء معطاء تفيض بجمالها وعطرها الذي يفوح في المكان ليملأه رائحة عطرة مثلما تشدوا البلابل وتزقزق العصافير بأجمل الألحان فيه ليجد الزائر نفسه في مكان تملئه الماء والخضرة والوجه الحسن (كما يقول المثل ) ليخرج منه بنفس جديد وهمة جديدة تزيده إصرارا على تحمل مشاق الحياة لينال شهدها.

ولكن فجاة دار الزمان وتوقفت تلك الالحان بوفاة المرحوم الشيخ صبري مع ان الموت حق للحياه على كل من يحيا فيها ولكن رحيل أمثال الشيخ تترك اثرا في النفس لا يمحي ، لتغيب معه اجواء لا يجيد بها الزمان دائما . ومما عجل في وفاته وفاة ابنه الشاب المهندس المرحوم مراد بمرض عضال لم يمهله طويلا وهو الابن البكر ، ليعيش بعده والده همه والمه مع نفسه بنفس تأبى أن تشعر الاخرين بفداحة مصابها .

يمكن القول ان الشيخ صبري قال كلمته في الحياة بهدوء يتطابق مع نظافه وعفة يده واستقامة سيرته وهدوء طبعه وهو الذي لم يكن يفكر في جاه او منصب حكومي او ديني مع انه كان بحكم موقع عائلته الدينية متمكنا من ذلك ولكن فضل الجلوس بين الباحثين عن العلم والمعرفة على غيرها. لتنهض وفق امنياته اجيالا جديدة وجديده في منطقته تسلك دروب المعرفة الذي سلكه وهذا بالتأكيد كان عزائه وعزاء كل الطيبين الذين يجدون أن أثمن الثروات هي ثروات العلم والمعرفة التي لا تقدر بثمن.
كان الشيخ صبري مراد إنسانا متواضعا، و سابقا سياسيا نزيها، محبا للعلم، مشجعا للبحث، ملتزما بقضايا مجتمعه. ترك إرثا غنيا لا يُنسى، ومجلسا ثقافيا قلّ نظيره، وذكريات دافئة تظل نابضة في قلوب من عرفوه.
لقد كان الشيخ صبري ذاكرة حيّة، يجمع ما بين فطنة المعلم، وشغف المثقف، وصبر الفيلسوف، وإنسانيّة الشيخ. وكان مجلسه منبرا مفتوحا لمن أراد أن يتعلّم أو يُعلِّم.
اليوم، وبعد سبعة عشر عاما على رحيله، تبقى سيرته حاضرة في الذاكرة الجمعية لبحزاني ومحيطها، جذوة معرفة لا تنطفئ، و كقدوة في الانفتاح والتواضع وحب الإنسان.
رحم الله المربي المثقف الكبير الشيخ الجليل صبري مراد في ذكرى وفاته السابعة عشر.
وبرحيله وبعده رحيل اصدقائه المربيين الافاضل الاساتذه مال الله ديوالي وحسن ديوالي والياس خلو ، رحل معهم الكثير من جمال الضيعه وعاداتها وتقاليدها الاصيلة. ولكنها الحياة لا تبقي على احد وحسب الإنسان أن يترك أثرا طيبا.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular