في التشتت الجغرافي والتشظي الهوياتي، تظهر الجاليات الإيزيدية في أوروبا ككيانات تنطوي على إمكانيات نوعية لا يُستهان بها في مسار التغيير الاجتماعي والثقافي، لأن حرية التعبير والتفكير، والولوج إلى فضاءات التعليم والنقاش العام، إضافة إلى توفر الموارد المؤسسية، تمنح هذه الجاليات مكانتها الصحيحة، لا بوصفها حاملة لذاكرة جمعية فقط، بل بوصفها فاعلاً تاريخياً قادراً على إعادة إنتاج الذات عبر تفعيل طاقاتها الكامنة في فضاء الحداثة، وبهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى المهجر باعتباره هامشاً وجودياً، أو خروجا من الدائرة، بل ينبغي تأطيره كمجال بنيوي لإعادة صياغة المشروع الإيزيدي برمّته، انطلاقاً من شروطه المتحققة هناك.
ويجد هذا الطرح جذوره في نظرية الفعل التواصلي عند (يورغن هابرماس)، الذي رأى أن التواصل العقلاني القائم على التفاهم المشترك، وليس الإكراه أو المصلحة الفردية، هو أساس التنظيم الاجتماعي الديمقراطي، وإن هذا الفعل التواصلي لا يفترض فقط وجود فضاء عام حرّ، بل يفترض أيضاً وجود ذوات قادرة على الدخول في حوار غير تشويهي، حيث يتم تحرير الفعل من أنماط الهيمنة التقليدية، ومن هنا، فإن الرهان الحقيقي على الجاليات الإيزيدية في أوروبا يكمن في كونها أكثر تحرراً من أنساق القمع الرمزي والاجتماعي والعشائري التي ما زالت تعيق التفكير المستقل داخل المجتمع الإيزيدي في الوطن الأم.
غير أن الطاقات الفردية، مهما بلغت من التميز، تظل عاجزة عن تشكيل وعي تاريخي ما لم تتحول إلى بنى مؤسسية فاعلة، فالفرد، بوصفه كينونة ناقصة، لا يكتمل إلا ضمن شبكة من العلاقات التشاركية التي تمنحه إمكانات الارتقاء إلى الفعل الجمعي، لأن المشروع الإصلاحي المدني، الذي ينشد تجاوز القوالب التقليدية، لا بد أن يتأسس على استقلالية القرار المعرفي، وعلى نفي التبعية للمرجعيات العشائرية التي غالباً ما تنتج إعادة تدوير للأزمة في صورة هوية ماضوية مغلقة.
وفي هذا الإطار، لا يمكن لأي مشروع طموح أن ينهض ما لم يُعهد بقيادته إلى نخب أكاديمية وثقافية تملك القدرة التأويلية والمعرفة النقدية، والتخطيطية، بعيداً عن الشخصيات ذات الرؤية الأحادية التي تهيمن على المشهد الراهن، لأن إعادة الثقة في المشروع الإيزيدي تتطلب فاعلاً جمعياً يتموضع خارج دائرة الأدلجة، ويتعامل مع قضايا الهوية، والحقوق، والوجود، كحقول تفكير لا كموضوعات للتمجيد العاطفي.
وكما يشير هابرماس، فإن:
“شرط إمكان الفعل العقلاني هو الاعتراف المتبادل بين الفاعلين بوصفهم متساوين في الكفاءة التواصلية”، وعليهِ، فإن الانطلاق نحو مشروع إصلاحي يتجاوز الماضوية، ويتطلب توحيد الجهود تحت مظلة من التفاهم العقلاني، لا التنازع الهوياتي، لذلك، يمكن للجاليات الإيزيدية أن تتحول من جزر معزولة إلى شبكة فكرية-مؤسسية قادرة على صياغة المستقبل، لا عبر رفض الماضي، بل عبر تأويله تأويلاً يعيد له معناه ويحرّره من سطوة الميتافيزيقا.
ففي النهاية، الإصلاح ليس فعلاً تقنياً، بل هو مشروع أنطولوجي يتطلب استدعاء العقل العمومي، وإعادة بناء الذات الجمعية ضمن أفق من التواصل غير المشوّه، وحيث تتحقق الحرية بوصفها اشتقاقاً من التفاهم، لا من الهيمنة.