الثلاثاء, مايو 7, 2024
Homeاخبار عامةبين النجف وقم.. قصة الحوزات العلمية عبر التاريخ

بين النجف وقم.. قصة الحوزات العلمية عبر التاريخ

علي السيستاني آية الله العظمى والمرجع الأعلى للشيعة في العراق.
علي السيستاني آية الله العظمى والمرجع الأعلى للشيعة في العراق.

يشير مصطلح الحوزة في الثقافة الشيعية الإمامية الإثني عشرية إلى المكان الذي تُدرس فيه العلوم الدينية، والذي يجتمع فيه طلاب العلم الديني مع أساتذتهم وشيوخهم. تُعدّ حوزتا النجف في العراق، وقم في إيران أهم الحوزات العلمية على الإطلاق. ما هي المراحل التعليمية المختلفة في الحوزات العلمية؟ وما قصة حوزتي النجف وقم؟ وماذا عن التنافس بين الحوزتين؟

التعليم في الحوزة

في كتابه “إيران من الداخل” يشرح الكاتب المصري فهمي هويدي نظام التعليم الحوزوي. يقول هويدي أن التعليم في الحوزة يمر بعدد من المراحل المتتالية، بحيث لا يتمكن طالب العلم من الترقي والوصول لمرحلة ما إلا بعد أن يجتاز المرحلة السابقة. يمكن أن نحصر تلك المراحل في ثلاث محطات رئيسية.

تُعرف المرحلة الأولى باسم “سطح المقدمات”، ومدتها خمس سنوات، ويتلقى فيها الطالب دروساً تمهيدية ومقدمات في علوم اللغة والبيان والبديع والفقه والأصول وعلم الكلام والفلسفة. وتُعرف المرحلة الثانية باسم “سطح المتوسط”، ومدة الدراسة بها من 3 إلى 5 سنوات، ويكون الطالب في تلك المرحلة تحت اشراف أحد مراجع الحوزة الكبار. ويتخصص فيها في دراسة الفقه أو الفلسفة أو التاريخ. أما المرحلة الثالثة، فتُعرف باسم “سطح الخارج”. وهذه المرحلة تشبه مرحلة الدراسات العليا في الكليات النظامية، والغرض الرئيسي من الدراسة في تلك المرحلة هو أن تجعل الطالب مستعداً للوصول لمرتبة الاجتهاد، ولا يوجد وقت زمني محدد لإنهاء تلك المرحلة، فقد يستمر بها الطالب لسنوات قلائل، ومن الممكن أن تستغرق عمر الطالب كله. وفي تلك المرحلة يبدأ الطالب في اعداد البحوث الفقهية المعمقة ويدرس على يد المراجع الكبار.

تعارف العلماء في الحوزات العلمية على عدد من المصطلحات والألقاب التي يُفهم منها المرحلة العلمية التي يتواجد بها الطالب. ففي مرحلة سطح المقدمات، يُطلق على الباحث “طالب أو مبتدئ”، وفي مرحلة سطح المتوسط، يُطلق عليه لقب “ثقة الإسلام”، أما في مرحلة سطح الخارج، فيُطلق عليه لقب “آية الله”. وفي حالة أن توسعت قاعدة وشعبية آية الله داخل الحوزة، فإنه يصبح مرجعاً للتقليد.

حوزة النجف

تقع مدينة النجف في الجزء الجنوبي الغربي من وسط العراق. ويتفق الشيعة الإمامية على تقديسها. ويرجع السبب في ذلك لمجموعة من الروايات المنسوبة إلى الرسول، وفق الرواية الشيعية، كما يرجع أيضًا لكونها المكان الذي احتوى مرقد الإمام علي بن أبي طالب.

تقع مدينة النجف في الجزء الجنوبي الغربي من وسط العراق. وتشغل أهمية كبرى في الأوساط الشيعية باعتبارها المكان الذي دُفن فيه علي بن أبي طالب، الإمام الأول عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية.

في سنة 448ه، دخل السلاجقة الأتراك مدينة بغداد. وشنوا حملة اضطهاد عنيفة ضد الشيعة الإمامية. أُحرقت مكتبة شيعية كُبرى، ونُهبت دار شيخ الطائفة الشيخ الطوسي وسُرق ما بها. أمام تلك الأحداث المتسارعة هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف، وتبعه أنصاره ومحبوه. ولم تمر سنوات قلائل حتى أضحت النجف مركزًا علميًا مهمًا للشيعة الإمامية. وتم تأسيس ما عُرف باسم الحوزة العلمية بالنجف.

اعتاد الكثير من الرحالة والزائرين على وصف الحوزة النجفية عند زيارتها. يقول الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة واصفًا مشاهداته لمدرسة الحوزة سنة 726ه: “مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة. ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم”. على مر السنين، أُسست العشرات من المدارس العلمية في النجف. من بين أشهر تلك المدارس، كل من مدرسة الصحن الغروي، ومدرسة المقداد السيوري، ومدرسة الصدر، ومدرسة كاشف الغطاء، ومدرسة الفاضل الإيرواني، ومدرسة الآخوند الكبرى، ومدرسة القزويني، ومدرسة محمد كاظم اليزدي، ومدرسة البخارئي. وقد تحدث عبد الرزاق حرز الدين في كتابه “تاريخ النجف الأشرف” عن الدور المهم الذي اضطلعت به تلك المدارس، فقال: “النجف منهل العلماء عبر القرون، وقد تخرّج من جامعتها الآلاف منهم، ولم تزل مجالسها لا تهدأ عن المذاكرات العلمية والفروع الفقهية، فكلّ من لديه مسألة عويصة أو فرع مغلق يأتي لمجلس منها ليعثر على ضالّته، بل حتّى المجالس العامة للسواد إذا حضرها أهل العلم لا تسمع إلاّ المذاكرات العلمية بينهم، وناهيك بالمساجد والصحن الغروي المقدّس يسمع أصوات أهل العلم في المذاكرات من خارج سور النجف، ولا زالت الحركة العلمية فيها تنمو ويخرج منها في كلّ سنة عدد كبير من دعاة الدين ورجال الفضل والعلم الغزير”.

 

حوزة قم

تقع مدينة قم على بعد 157 كم جنوبي العاصمة الإيرانية طهران. وتحظى بمكانة مهمة في الوجدان الشيعي الاثني عشري. يرى الشيعة في تلك المدينة واحدة من أكثر المدن قداسة واعتبارية. يرجع السبب في ذلك إلى كونها الأرض التي دُفنت فيها فاطمة (المعروفة بفاطمة المعصومة) بنت الإمام موسى الكاظم في سنة 201ه. ارتفعت منزلة قم منذ ذلك الوقت، وعرفها الشيعة باسم “عش آل محمد”. وجرى الاهتمام بعمارة مرقد فاطمة عبر القرون حتى أضحى مزاراً دينياً يقصده الملايين من الشيعة في كل عام. في السياق نفسه، تواترت الأحاديث المنسوبة للأئمة والتي أكدت على أهمية تلك الزيارة.

تُعدّ قم مركزاً للعديد من المرجعيات الدينية الشيعية المهمة داخل إيران، من أهم هؤلاء المراجع كل من ناصر مكارم الشيرازي، وحسين وحيد الخراساني، وصادق الحسيني الشيرازي، وجعفر السبحاني، وصادق الحسيني الروحاني.

عُرفت قم تاريخيا بكونها أحد المراكز العلمية المهمة عند الشيعة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، كما نُسب إليها العديد من العلماء المعتبرين الذين أثروا المكتبة الشيعية بمؤلفاتهم ومصنفاتهم على مر السنين. من أهم هؤلاء العلماء كل من علي بن بابويه المعروف بالصدوق الأول، وابنه محمد بن علي بن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق، وابن قولويه القمي صاحب كتاب “كامل الزيارات”، وعلي بن إبراهيم بن هاشم القمي صاحب “تفسير القمي”. تراجعت مكانة قم العلمية في العصر السلجوقي، ولكنها استردت مكانتها العلمية مرة أخرى في العصر الصفوي في القرن السادس عشر الميلادي. عمل الصفويون على نشر التشيع في كافة أنحاء إيران. واهتموا كثيراً بمدينة قم وبما فيها من مزارات ومراقد.

في الربع الأول من القرن العشرين، تم تأسيس حوزة قم العلمية على يد الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي. سافر الشيخ لقم زائراً سنة 1923م مع مجموعة من طلبة العلم. استقر الزائرون في المدينة وأحيوا مكانتها العلمية القديمة بعدما شرعوا في تدريس العلوم الدينية والشرعية. لم تقتصر أنشطة الحوزة على الناحية العلمية فحسب. شارك علماء قم بشكل مؤثر في الأحداث الاجتماعية والسياسية التي شهدتها إيران. على سبيل المثال، اندلعت الشرارة الأولى للمظاهرات المعترضة على حكم الشاه في إيران من المدرسة الفيضية في حوزة قم فيما عُرف بعد ذلك باسم مظاهرات 15 خرداد/ 5 يونيو. وألقى الخميني في الثالث من يونيو عام 1963م من تلك المدرسة خطاباً معترضاً على الممارسات التحديثية التي قام بها الشاه محمد رضا بهلوي. ندد الخميني بمظاهر “التحديث والتغريب”، وعقد في خطابه مقارنة بين الخليفة الأموي يزيد بن معاوية والشاه. بعد يومين، قامت قوات الأمن باعتقال الخميني لتندلع المظاهرات في عموم المدن الإيرانية.

حالياً، يتلقى عشرات الآلاف من الطلاب الشيعة تعليمهم الديني في حوزة قم العلمية. يتوزع هؤلاء على ما يقرب من 200 مؤسسة ومدرسة. من أهمها كل من جامعة الزهراء، وجامعة الصدوق، وجامعة المفيد، وجامعة المصطفى العالمية. أيضاً، تُعدّ قم مركزاً للعديد من المرجعيات الدينية الشيعية المهمة داخل إيران، من أهم هؤلاء المراجع كل من ناصر مكارم الشيرازي، وحسين وحيد الخراساني، وصادق الحسيني الشيرازي، وجعفر السبحاني، وصادق الحسيني الروحاني.

التنافس بين حوزة النجف وحوزة قم

تنافست حوزتا النجف وقم مع بعضهما البعض منذ فترة طويلة. حاولت كل حوزة أن تثبت ريادتها وأهميتها في العالم الشيعي. وتبادل الطرفان التفوق تبعاً للظروف السياسية التي مر بها العراق وإيران.

في فترة حكم الشاه لإيران، تم التضييق على علماء قم. وسافر الكثير منهم إلى النجف واستقر فيها. في سنة 1965م، سافر الخميني نفسه إلى النجف الأشرف بعد نفيه من إيران، ودرَّس في حوزتها العلمية. وتسبب ذلك في ازدياد شعبية الحوزة النجفية في تلك الفترة.

تبدل الوضع فيما بعد، لعبت الظروف العصيبة التي مر بها شيعة العراق خلال فترة حكم الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين دوراً مؤثراً في تراجع مكانة النجف وفي ازدياد أهمية حوزة قم بالتبعية. في تلك الفترة، تعرض الشيعة العراقيون لحملات ممنهجة من التضييق والاضطهاد. على سبيل المثال أُعدم المرجع محمد باقر الصدر سنة 1980م، كما تم التخلص من محمد صادق الصدر في حادث غامض في سنة 1999م. تسببت تلك الحملات في نزوح العديد من الأساتذة والطلبة إلى حوزة قم.

تذكر بعض التقارير أن عدد منتسبي حوزة النجف بلغ ستة عشر ألف طالب وأستاذ في سنة 1967م، وأنه انخفض إلى 500 فقط في العام في سنة 1991م، بما يعني أنّ نظام البعث قضى على أكثر من 90% من وجود الحوزة النجفية خلال 24 سنة فحسب.

بدأت حوزة النجف في استرداد قوتها ونفوذها بعد سقوط النظام البعثي في سنة 2003م. يتضح ذلك من خلال الأرقام التي أوردتها التقارير السابقة، والتي ذكرت أن عدد منتسبي الحوزة العلمية في النجف في العام 2020م بلغ حوالي خمسة عشر ألفا.
لا يقتصر التنافس بين الحوزتين على الناحية العلمية فحسب. توجد بعض المسائل التي تشهد خلافاً واضحاً بين النجف وقم. تُعدّ مسألة ولاية الفقيه أهم تلك المسائل على الإطلاق. يذهب العديد من مراجع قم المعتبرين إلى القول بولاية الفقيه المطلقة. كان الخميني أول فقهاء الشيعة الذين أحيوا هذا الرأي في العصر الحديث، ووضعه موضع تطبيق بعد انتصار ثورته في إيران سنة 1979م. عقب وفاة الخميني في 1989م، تولى علي خامنئي منصب الولي الفقيه، وتم الترويج له على كونه ولي الأمر الشرعي لكافة الشيعة الموجودين في شتى أنحاء العالم.

ولاية الفقيه… الدولة في زمن الغيبة

يعترض علماء الحوزة النجفية على نظرية ولاية الفقيه المطلقة، وأعلنوا -مراراً- عن رفضها. على سبيل المثال رفض المرجع الشيعي النجفي الأسبق أبو القاسم الخوئي الإقرار بولاية الفقيه المطلقة في كتابه “التنقيح في شرح العروة الوثقى”. فرق الخوئي بين الولاية الممنوحة للنبي والأئمة من جهة، وولاية الفقهاء في زمن الغيبة. يقول الخوئي: “إن الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل وإنما هي مختصة بالنبي والأئمة، بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجية فتواه، وليس له التصرف في مال القصّر أو غيره مما هو من شؤون الولاية إلاّ في الأمر الحِسبي…”.

المعنى نفسه، ذهب إليه علي السيستاني -المرجع الشيعي الأكبر في النجف حاليًا- عندما حصر ولاية الفقيه في بعض الأمور دون بعض، وربط الولاية المطلقة بـ”قبول المؤمنين”. يقول السيستاني: “الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء بالأمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد. وأما الولاية فيما هو أوسع منها من الأمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي، فلمن تثبت له من الفقهاء ولظروف إعمالها شروط إضافية ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين”.

يرفض أبو القاسم الخوئي ولاية الفقيه العامة. أما السيستاني، فيحصر ولاية الفقيه في بعض الأمور الحسبية أساسا، ويربط الولاية المطلقة بـ”قبول المؤمنين”

ترويج مرجعيات حوزة قم لنظرية ولاية الفقيه المطلقة، استلزم بالتبعية وقوع التداخل بين السياسي والديني. صار المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي لاعباً أساسياً في الساحة السياسية بالعراق. ونظر له الكثير بعض العراقيين على كونه ولي الأمر الشرعي الذي يجب عليهم الإنصات لكلمته في الأمور السياسية والحياتية.

لهذا السبب، يعتقد العديد من المراقبين أن ثمة صراعاً خفياً يدور بين خامنئي والسيستاني، وأن هذا الصراع يعكس التنافس الشرس بين حوزتي قم والنجف. توقعت بعض التقارير أن التنافس بين الحوزتين سيتزايد بعد وفاة أي من المرجعين “فإذا ما توفي خامنئي أو السيستاني، سيبرز فراغ في السلطة، مما سيسمح للطرف الآخر بتوسيع دائرة نفوذه. فعلى مر التاريخ، خلال السنوات الخمس إلى العشر التي تلي وفاة مرجع كبير، يتنافس المرشحون فيما بينهم على تأسيس قاعدة شعبية داعمة لهم. ومن الأمثلة السابقة على ذلك وفاة عبد الكريم الحائري اليزدي وحسين البروجردي ومحسن الحكيم وأبي القاسم الخوئي… إذا توفي السيستاني أولاً، سيطالب العراقيون على الأرجح بزعيم جديد بارز في النجف؛ لتقديم المشورة الدينية، والاضطلاع بدور في السياسات والحوكمة المحلية. وسيسعى خامنئي بلا شك إلى توسيع دائرة نفوذه في النجف أيضاً”.

محمد يسري

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular