رافقتنا زخات المطر الغزير في طريقنا من اربيل حتى لالش، ذهابا وايابا، وعلى مدى 125 كيلومترا قطعناها على طريق دهوك الجديد الذي يشبه الطرق السريعة في اوربا. قبل الوصول الى دهوك استدار السائق يمينا باتجاه اشهر واهم معبد للايزيديين، يقع في منطقة جبلية قرب عين سفني وقريبا من قضاء شيخان، الذي كان يضم اغلبية أيزيدية لكنهم اليوم يشكلون أقلية بسبب ما تعرضوا له من فواجع على ايدي تنظيم داعش الارهابي، ويبعد مسافة 58 كيلومترا عن محافظة نينوى التي يتبع المعبد اداريا لها. ويقع المعبد في حضن وادي يزدهر بانواع من الاشجار وعيون الماء.

اذا كنت تنوي ان تزور معبد لالش فعليك ان تخلع حذائك وتدخله حافيا، واياك..اياك ان تدوس على عتبة المدخل الرئيسي او اية عتبة في الداخل، فحسب معتقدات الايزيديين ان الخير يدخل الى المعبد من خلال العتبة، ولهذا فلها قدسيتها، ويجب ان تمد ساقيك لتتجاوزها. وما ان لامست اقدامنا ارض المعبد المصفوفة بحجر الحلان العتيق المبلل بالمطر حتى سرت برودة خفية في اجسادنا اضافت لشعور القدسية قشعريرة تناسبت مع المكان وطقوس زيارته.
حية آدم

تستقبلنا باحة واسعة قبل الدخول الى المعبد المبعد الرئيس المبني من حجارة مربعة الشكل وبمقاسات متقاربة، هناك يرتفع جدار إلى أكثر من أربعة أمتار وبوابة كبيرة مصنوعة من خشب الزان وإلى الجانب الأيمن من مدخل المعبد تعلو جدارية منحوت عليها صورة الحية السوداء والتي لها مكانتها في الميثولوجيا القديمة لميزبوتاميا، ويقدسها الايزيديون معتقدين بأنها أنقذت البشرية عندما لفت نفسها في الثقب الذي اصاب سفينة نوح عندما اصطدمت بصخرة إثناء الطوفان.. ولهذا السبب نرى إن للحية السوداء في الموروث الديني الايزيدي مكانة كبيرة فهي موجودة في أغلب معابدهم الصغيرة الأخرى ومزاراتهم المختلفة.

أمام باب المعبد ينبسط أيوانٍ واسع بأرضية مفتوحة تم رصفها بالحجر الحلان وبمقاسات واحدة، وإلى اليمين موقع أو دكة يجلس عليها بابا شيخ ، الزعيم الروحي الديني للأيزيديين في الأعياد التي تقام في لالش وهو يستقبل زائريه، ثم إلى اليسار مقام بابا جاويش الذي يقوم بمقام الإرشاد الديني في المعبد.

الايزيدية رفاه حسن تفك عقدة وتطلب امنية/ تصوير.. معد فياض

الايزيديون كورد

في هذا الايوان الواسع انزوى بعض الشباب حول موقد نار اشتعلت بقطع من جذوع اشجار عريضة لاغراض التدفئة، الى تلك الزاوية الدافئة لجئنا قبل ان ندخل الى البناية الرئيسية، وهناك التقينا بسيدة جاءت من سنجار مع ولدها لاداء طقوس الزيارة، وانتهزت الفرصة لالتقاط صورة معها ووجهها يشع بعلامات المحبة والسكينة والوقار..عندما سالتها عن سنجار اوضحت بانها لا تفهم العربية، ذلك ان جميع المصادر والبحوث وحسب رجال الدين الايزيديين يؤكدون بان الايزيديين كورد، وان جميع نصوصهم الدينية التاريخية مكتوبة باللغة الكوردية وانهم يمارسون صقوسهم وصلاتهم باللغة الكوردية.

الصمت يخيم على فضاء معبد لالش الذي يٌعد من أكثر الاماكن قدسية عند الايزيديين حيث تقام فيه الطقوس الدينية، والاعياد ، والحج، والزواج ويعتبر مكاناً لحل المشاكل الكبيرة التي تحدث بين الناس.ويضم قبر الشيخ عادي بن مسافر المقدس عندهم، بالاضافة الى انه مقر المجلس الروحاني للديانة الايزيدية. وعلى الايزيديين الحج لهذا المعبد مرة واحدة خلال حياتهم في الاقل، حيث تستمر مناسك الحج سبعة ايام، لهذا تجد الايزيديون يلتقون هنا من مختلف انحاء العالم في موسم العيد، اما الايزيديون من بقية انحاء العراق او من اقليم كوردستان فهم يزورون المعبد لاكثر من مرة خلال العام، خاصة في موسم الحج السنوي خلال الخريف من 23 ايلول وحتى الاول من تشرين الاول.

مع زائرة ايزيدية من سنجار

تاريخ مجهول

المصادر المعرفية حتى الان لم تفسر معنى اسم المعبد اذ كثرت الآراء حول تسمية لالش، وهذه الآراء لم تستند إلى أدلة علمية، وتاريخية بسبب عدم وجود دراسات، وتنقيبات أثرية علمية عن معبد لالش لمعرفة تاريخه، ومعنى أسمه، والفترة التي يعود إليها. ويفسر البعض إن كلمة لالش مكونة من مقطعين الأول ( لال ) بمعنـى ( ابـكم ) والمقطع الثانـي (لش) بمعنـى ( اصم)، فيكون المعنى:المكان الصامت او الهادئ، وذلك لكون المكان مقدس فكل من يدخل عليـه إن لا يتكلم بل يدعي ربه، ويصلي بصمت .وحسب ما جاء في النصوص الدينية الايزيدية، فان تسمية لالش تعني خميرة الأرض حيث كانت الأرض في البداية في حالتها السائلة بعد ان انزل الله فيها لالش.

لا توجد حتى الأن ابحاث دقيقة حول تاريخ المعبد، ذلك لعدم اجراء دراسات، وتنقيبات اثرية علمية في لالش.هناك أراء وكتابات كثيرة حول تاريخ المعبد لكنها غير موثوقة علميا.

ولنا هنا ان نستعير رأي الباحث الاثاري الذي اختص بتاريخ اقليم كوردستان، عبد الرقيب يوسف، الذي يصف المعبد بأنه اقدم موقع قائم في كردستان إذ يرجع تاريخه إلى الالف الثاني قبل الميلاد، وهو امتداد للتراث والديانة الميثرائية التي كانت قائمة ومنتشرة في كردستان. ويستند الباحث في هذا الرأي الى وجود العديد من رموز الديانة الميثرائية فيه كما ان هذا القول يؤكده بعض الباحثين الايزيديين إذ يعدون الديانة الايزيدية امتدادا للديانة الميثرائية كونها تتكون من جذور وتقاليد دينية شبيهة بما كانت موجودة في الديانة الميثرائية، مثل اسلوب البناء وغرفة جرار الزيت، والنار التي تُشعل بكثرة في المعبد، خاصة مساء يوم الاربعاء وهو اليوم المقدس عند الايزيديين.

الزائر لمعبد لالش لا بد من ان يزور موقع (كانيا سبي) الذي يعد اقدس موقع في المعبد وهي بركة ماء صاف تنزل في حوض عبر مدخل بوابة العين وعلى اليمين منها موقع السادن الذي يشرف عليها، وهنا يتوجب على كل شخص ايزيدي أن يرش الماء عليه في هذا المكان خاصة الذين لم يسبق لهم زيارة المعبد، وهذا الأمر بمثابة التعميد الموجود لدى المسيحية.

مع بابا جاويش في معبد لالش

جرار زيت وامنيات

هنا يتداخل الحاضر بالتاريخ القديم بطريقة تلقائية، فما ان نعبر عتبة غرفة او كهف جرار زيت الزيتون الذي يستخدم منذ مئات السنين لايقاد المشاعل حتى نشعر باننا غادرنا حاضرنا ومضينا الى عمق الزمن، كهف يمتد تحت الجبل طوليا ومضاء باستمرار بالمشاعل يروي قصة عراقة هذا الجبل وكم من مراحل وعصور قد مرت عليه. ويقال ان هذه الكهوف المحفورة في حجارة الجبل هي المعبد الأساس، وبعد إن ازداد عدد السكان أصبح المعبد صغيراً مما دفعهم إلى بناء مبانٍ فوق الكهوف.لكن جميع هذه الأراء تعتبر مجرد نظريات إلى أن تبرهن من خلال التنقيبات الأثرية، والدراسات التي قد تحدث في المستقبل.

في كهف جرار الزيت توجد سبعة اعمدة بعدد ايام الاسبوع، وحول بعضها تلتف قطع من اقمشة بنختلف الالوان وفيها عقد. وحسب الناشطة الاجتماعية الايزيدية رفاه حسن، فان زوار معبد لالش، النساء خاصة، يقمن بالدعاء والتمني، مثل طلب الزواج او الانجاب او الدعاء بالصحة وغيرها من الامنيات عند ربط العقد او حلها لحل مشكلة ما. تضيف رفاه حسن، وهي أيزيدية من اهالي بعشيقة، وكانت تحل عقدة معينة، بان هناك طقس آخر يتمثل بالتمني ورمي قطعة قماش فوق صخرة في غرفة جرار الزيت لثلاث مرات، فان استقرت، ولو لمرة واحدة فوق الصخرة فسوف تتحقق الامنية.

باحة معبد لالش

طراز معماري نادر

علامة الدلالة المميزة لاي موقع او مستوطن للايزيديين هي القباب المخروطية، واهمها قبة ضريح الشيخ مسافر بن عادي التي تستقبل الزائرين في لالش عن بعد. ويقول بابا جاويش:” يوجد في لالش ست قباب كبيرة، أبرزها قبة مزار شيخ عادي، شيخ شمس، شيخو بكر وكانيا سبي، وأكثر من أربعين موقعاً ومقاماً مقدسا للاولياء الايزيدية، ولكل واحد موقعه ومقامه عندهم.

ويعتبر معبد لالش، الذي تحرص اليونيسكو اليوم على صيانته، طراز فني نادر في العمارة والبناء، إذ يمتزج فيه الفن السلجوقي وكذلك الشرقي القديم المرتبط بالتراث الكردي من حيث الابنية الواسعة فضلا عن وجود بقايا علامات ورموز قديمة جدا تعود للقرون الاولى قبل الميلاد وهي مرسومة على الجدار الخارجي ويمكن ملاحظتها، مثل: عين الشمس، الحلقة المفتوحة وعلامات اخرى لايمكن ملاحظتها الا بالتمعن فيها جيدا.

الاربعاء الاحمر

الحبة السوداء عندبوابة المعبد

للايزيديين اعيادهم كما في بقية الاديان الاخرى، لكن اهم هذه الاعياد هو عيد رأس السنة الايزيدية او الأربعاء الأحمر، أو كما يسمى باللغة الكوردية “جارشمبا سور” ، الذي يصادف يوم الأربعاء الأول من شهر نيسان في كل عام، حسب التقويم الشرقي الذي يتأخر عن نيسان التقويم الغربي بـ 13 يوماً.

ويحتفل به الإيزيديون في أماكن وجودهم في العراق، حيث مركز تواجدهم في سنجار وشيخان باقليم كوردستان، وسوريا وتركيا وإيران ومناطق متفرقة من أذربيجان وأفغانستان وروسيا والكثير من الدول الأوروبية وخاصة في ألمانيا.

وحسب المعتقدات الايزيدية فانه سمي بالأربعاء الأحمر لأنه في مثل هذا اليوم ضخ الرب الدم في جسم ” آدم” فاكتمل اللحم عليه وجرى الدم في جسده، وانتهى الله من خلق الكون وبعثت الحياة على كوكب الأرض في الأربعاء الأول من نيسان، لذا وُصف ” الأربعاء الأحمر” بيوم الخليقة وازدهرت شقائق النعمان في صباح الأربعاء، لهذا يتزينون بها ويزينوا منازلهم بها، ويطلق عليها اسم زهرة نيسان.

وتحضيرا ليوم العيد، يبدأ الرجال والنساء بعصر الزيتون في معبد لالش الذي يزدحم بآلاف الايزيديين من الشابات والشباب في صباح العيد ويعتبر هذا اللقاء مناسبة لاختيار الزوجات والازواج، ويشعلون 365 قنديلا بعدد أيام السنة، مستخدمين زيت الزيتون النقي.

معد فياض