الثلاثاء, مايو 7, 2024
Homeمقالاتد.عامر صالح : الديناميات النفسية المتحولة في وعي الانتفاضة

د.عامر صالح : الديناميات النفسية المتحولة في وعي الانتفاضة

 

اندلعت انتفاضة تموز العراقية في البصرة وامتدت شرارتها الى المحافظات العراقية الاخرى على خلفية فشل النظام المحصصاتي الطائفي والأثني خلال عقد ونصف من الزمن في الاستجابة للمطالب الانسانية والحقوق العادلة, والتي يجسدها الطموح في العيش الكريم وتوفير الخدمات الاساسية اللازمة للحد الادنى من البقاء الصالحوكان النضال المطلبي للانتفاضة في بدايته ينصبعلى توفير الضروريات من كهرباء وماء وصحة وتعليم وايجاد فرص للعاطلين عن العمل ومعالجة ظاهرة البطالة والتي بلغت اشدها في اوساط الخريجين من مختلف التخصصات العلمية والانسانية والمهنية.

 

ولكن حالة الاحباط المزمن خلال خمسة عشر عاما وعدم الثقة في النظام السياسي الذي أغرق البلاد والعباد في الفساد الاداري والمالي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والاخلاقيوعبر عن عجزه المطلق في معالجة الازمات المستفحلةكل ذلك جعل من مطالب المنتفضين ليست نشاطا دوريا او شكليا روتينيايبدأ ثم يتم اخماده أو التراجع عن المطالبة بفعل النشاطالمساوماتي لقوى السلطة الحاكمة مع المنتفضينبل هي مطالبة تعكس نقلة نوعية في الوعي العراقي المعارض للنظام المحصصاتيوهي حالة من التراكم الكمي والذي لا بد ان يجد اشراقات التحول النوعي في الوعي, عبر فهم اسباب الازمة العامة في البلادوكان ابرز تلك التحولات في الوعي هو المطالبة بتغير النظام وبنيته المؤسساتيةباعتبارها السبب الرئيسي في ديمومةالازمات واستعصائها عن الحل.

 

ومما زاد الطين بله هو ضعف المساهمة الشعبية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 12ـ05ـ2018 والتي سبقت الانتفاضة البصرية, وكذلك ما تخلل عملية الانتخابات من تزوير كبير عبث بأرادة الشعب العراقي, وقد اكدت ذلك الحكومة العراقية من خلال اجهزتها الاستخبارتية والامنية والحكومية الاخرى وعلى لسان رئيس وزرائها حيدر العباديوقد اعقب ذلك قرارات صدرتمن البرلمان المنتهي الصلاحيةبايقاف عمل المفوضية للانتخابات واستبدالها بلجنة من القضاة التي انتدبت للتدقيق في نتائج الانتخاباتمن خلال اعادة العد والفرز اليدوي بدل من الالكترونيولكن لجنة القضاة فاجئت الشعب العراقي ” بأن نتائج العد والفرز اليدوي جاءت مطابقة بنسبة 99% للعد الالكترونيثم اعقبتها خطوة سريعة ومستعجلة من المحكمة الاتحادية هي المصادقةعلى نتائج الانتخاباتوكانت تلك صدمة شعبية وسياسية اخرى لما يجري من شرعنة للنظام المحاصصاتي واعادة انتاجهوعقب ذلك فورا بدأت الكتل السياسية المتناحرة وليست المتنافسة في الشروع لتشكيل ما يسمى بالكتلة الاكبر ذات الغموض في مفهومهاوالجميع يريد الحكم والسلطة ولا يريد المعارضة.

 

في تلك الاجواء الملبدة بالغموض والاشكاليات تجاوزت الانتفاضة يومها الخمسين وهي تعبر عن تحول نوعي في الوعي والمدارك العراقية في فهم ما يجري في السياسة والاقتصاد والتفاعلات المجتمعيةوهي نقلة نوعية في البعد العقلي ـ المعرفي لفهم اسباب ما يجريوبالتالي المطالبة بالحلول النوعية لتجاوز الأزمةورفع شعارات ذات قيمة مطلبية ملموسةهذا تطور نوعي فيفهم آلية الاسباب في ضوء علاقتها بالنتائج, وتشكل نقلة أستثنائية في فهم الأزمة العامة في البلاد وجذورها على المستويين الذاتي والموضوعي, كما يشكل ذلك نقلة ايجابية في الوعي العراقي, من الحالة الحشدية القطيعية الى حالة التفرد والتمايز الجميل في استدراك ما يجري ورفض الوصاية الرعوية والابوية البطريركية الدينية وغير الدينية على عقول العراقيين.

 

كما نعرف أن الوضع السياسي في العراق هو نتاج لتراكم سبق سقوط النظام السابق في عام 2003 وما بعده, وما خطط للعراق خلال عقود من الزمن أن يكون ضعيفا مهمشا, لا سيادة له على ارضه ومقدراته وثرواته الطبيعية والثقافية والاجتماعية, مفتتا الى كانتونات طائفية وأثنية, ابتعدت عن تنوعها الجميل الذي عرفناه ومخترقا من الطائفية ـ السياسية والتجمعات المصغرة ذات الطابع الشللي, والمليشياتي, ومستنقع للعصابات الإجرامية, واصبحت الطائفة واجهة ومظلة لحماية المجرمين والفاسدين والسراق والقتلة, حتى باتت تلك التجمعات الشللية الطائفية والطائفية السياسية مرتع للجرائم الكبرى في سرقة المال العام والقتل الجنوني المجاني اليومي والمرتبط بأجندة سياسية وأرهابية, متزامنا مع التفكيك البنيوي التدميري المنظم لمؤسسات الدولة, حتى أخذت تلك الأفعال المدنسة طابعا مقدسا من خلال زج الدين في أقصى مداياته في تفصيلات الخراب اليومي وإضفاء الشرعنة على السلوكيات السيكوباتية المرضية.

 

أن الخراب الفكري وما تبعه وظيفيا من خراب عقلي ـ معرفي هو أرث عقود من القمع السياسي والاجتماعي والثقافي من خلال غسيل الدماغ بتقنيات الحزب الواحد وسلطته التي حكمت العراق, وألغت فيه قيمة الفرد الذهنية والفكرية والابداعية, فحولت فيه شرائح اجتماعية واسعة الى كتل صماء منفعلة, تحركها اشارات من قائد الضرورة اينما يريد وكيف ما يريد وبأي اتجاه ويسوقها كراعي أغنام. وقد كان انعدام الأمل وضعف العامل الذاتي في التغير أحد اسباب انسياق الناس الى التمسك بدين مفرط زائد عن الحاجة الشخصية والتشبث بالماورائيات لحل ازمة الحياة المستعصية.

 

كانت تلك أرض خصبة للإسلامويين السياسيين بعد سقوط النظام الدكتاتوري الفاشي في 2003 للاستحواذ على السلطة من خلال استخدام سياسات التجييش والتحشيد القطيعي والافراط في استخدام المراسيم والطقوس الدينية حتى باتت عملا مدمنا وتحشيشيا يصبحوا ويمسوا عليه, وقد تحولت الدولة العراقية الى مجموع طقوس وشعائر دينية, غاب فيها الحديث عن التنمية والتخطط وتحسين مستويات العيش, حتى تحول كل شئيئ الى هالة من الطقوس المقدسة, بما فيها الفساد وسرقة المال العام والقتل الفردي والجماعي

لأكثر من عقد من الزمن كان الاسلام السياسي يستخدم جاهزية العقل العراقي المثقل بجراح الوعي لتسويق بضاعته الرخيصة وخطابه المعسول ذو الانفعالات المهيجة للاحتراب بين الاخوة في الوطن, ناسيا مطالب الناس في الخدمات والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير فرص العيش الكريم, ومتخذا من معاناة الناس في الفقر والفاقة والاضطهاد في تمويه سياساته في الفساد والجريمة والتحلل الخلقي من خلال اضفاء الشرعية على كل افعاله, وتسويف مطالب الناس من خلال الكذب والرياء والنفاق من خلال خطاب ظاهره مقبول نسبيا وباطنه عفن.

 

بعد عقود من الزمن كان مخاض شعبنا لتجاوزحالة الحصار السلطوي بشقيه الدكتاتوري والاسلاموي واضحا عبر اختمار آليات التغير في مراحلها الثلاث كما ترد في الادبيات السيكولوجية:

 

 ـ المرحلة الأولى: الرضوخ والقهر خلال هذه المرحلةالتي تدوم فترة طويلة نسبيايشكل زمن الرضوخ والاستكانة أو الفترة المظلمة من تاريخ المجتمععصر الانحطاطوتكون قوى التسلط في أوج سطوتهاوحالة الرضوخ في أشد درجاتهاوأبرز ملامح هذه المرحلة هو اجتياف (أستدخالعملية التبخيس التي غرسها الحاكم المتسلط في نفسية الجماهيرفيكره الإنسان نفسهويوجه عدوانيته تجاه نفسه وتجاه أمثالهومن ثم يقوم بإزاحة هذه العدوانية ليمارسها تجاه من هو اضعف منهومن الملامح الأخرى هو الإعجاب بالمتسلط المستبد وتضخيم تقديرهفيعطيه حقا شبه إلهي في السيادة والتمتع بكل الامتيازاتوبالتالي تنشأ علاقة رضوخ ” مازوخي ” من خلال الاعتراف بحق المتسلط بفرض سيادتهوتنشأ في هذه المرحلة مجموعة من العقد التي تميزحياة الإنسان المقهور أو المضطهد أهمهاعقدة النقصوفقدان الثقة بنفسه وبأمثالهوالتي تجعله يحجم عن كل جديدويتجنب كل تجربة قد تساهم في تغير وضعهلذلك فهو لا يحرك ساكناوإنما ينتظر ذلك البطل المخلص الذي سينتشله مما هو فيهوهذا ما يمهد الطريق للتعلق بالزعيم الفردتعلقا يغري بالتسلط والدكتاتوريةإن هذه الأفكار تجعل عملية التحديث تجابه بمقاومة شديدةتحبط البرنامج التنمويأما عقدة العار فهي تجعل الإنسان يخجل من ذاتهويعيش وضعه كعار وجودي يصعب تحملهفيتمسك بالمظاهر لتشكل غطاء لبؤسه الداخليولابد للمتسلط دورا في تحويل انتباه الإنسان المقهور من حالة الذل والقهر التي يعيشها إلى أمور ثانويةوبذلك يحمي المتسلط نفسه من ثورة المقهورينوأخيرا وليس آخرا يعاني المقهور من اضطراب الديمومةحيثأن طول المعاناة وعمق القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربته الوجودية للديمومة على شكل تضخم في آلام الماضيوتأزم في معاناة الحاضر وانسداد آفاق المستقبلويتفاعل هذا مع عقدة النقص وعقدة العارمما يغرق الإنسان في ضعفه وعجزه واستسلامه إزاء قوى تتحكم في مصيرهويحس انه لا قدرة له على مجابهتها.

 

ـ المرحلة الثانية: الاضطهاد وفيها يبدأ الإنسان بتحويل حالة الغليان العدوانية التي كانت موجهة ضد نفسه إلى الآخرين , بعد عدم تمكنه من كبتها بالآليات التي استخدمها في المرحلة الأولىانه يحول عدوانيته إلى الذين يشبهونهأن جوهر هذه العملية هو التفتيش عن مخطئ يحمل وزر العدوانية المتراكمة داخلياوبذلك يتخلص من شعوره بالذنب ومن عاره وعقد نقصه ويصبهاعلى الآخرمتهما إياه ” بشكل توهمي ” أنه يحسده ويريد أن يؤذيهوهكذا يصبح العدوان عليه مبررا فهو دفاع عن النفس ليس إلاإن هذا التفريغ والتحويل للمشاعر السيئة الداخلية تجاه الآخر المقهور مثله ينفع مؤقتا في تخفيف التوتر الداخلي للإنسان المقهورلكن ذلك يفشل في تخليصه وإراحته على المدى البعيدمما يجعله ينتقل إلى المرحلة الثالثة.

 

ـ المرحلة الثالثة: التمرد والمجابهة عندئذ يصبح العنف المسلح وغير المسلح هو السبيل ليتخلص الشعب من عقدة النقص والجبن والخوف التي غرسها الحاكم المستبد في عروقهوهو يحقق بذلك ذاته وينفض عن نفسه الكسل والجهل والاتكاليةوقد يكون العنف  والغضب في البداية معيقا لإمكانية التفكير والتنظيمولكنه يفتح المجال لكل الاحتمالاتفأما إعادة دورة العنف أوالانطلاق إلى رحاب التغير السلمي الهادئ والتأسيس لمرحلة قادمة ذات صبغة تقدميةوهذه الاحتمالات وثيقة الصلة بمن يقود عملية التغير.

 

أن المعضلة الكبرى كما يراها شعبنا المنتفض هي في الخلاص من نظام المحاصصة الطائفية والاثنية وهذا يعني اجراء تعديلات جوهرية على الدستورواعادة النظر بقانون الانتخاباتواصدار قانون الاحزابالى جانب تشريع قانون النقابات والاتحاداتوقانون النفط والغازوقانون حرية التعبيروقانون المحكمة الدستوريةوقانون مجلس الاتحادواعادة تشكيل مفوضيةالانتخابات وهيئة النزاههواعادة تشكيل مجلس القضاء الاعلى بما يضمن نزاهته حقاأما عدا ذلك فأن الامر يبدو أكثر تعقيداوان محاولات الحكومة هي مجرد امتصاص لغضب شعبناوحذاري من تحول احباط شعبنا الى عمل  يتجاوز كل التوقعات , وقد تدك المظاهرات والاعتصامات ابواب المنطقة الخضراءوعندها ستراق الدماء وسيخسر الجميعإلا داعشفسوف تجد لها فضاء لا حدود له للتمدد.

 

أن الأنتفاضة العراقية اليوم لا ينطبق عليها المفهوم التقليدي ” للإنتفاضات المنظمة ” كما كان يحصل في عقود خلت, حيث الأحزاب تقرر مسبقا مستوى النضج الذاتي للبدء بالأفعال الثورية, تعقبها ” ساعة الصفر “, فالأمر اليوم معكوس تماما, حيث تبدأ الجماهير دون سابق إنذار بإعلان الانتفاضة ثم تطلق دعوتها للأحزاب والقوى السياسية للالتفاف حولها, فالجماهير هي القائد الميداني للأعمال الثورية, أما دور الأحزاب فيأتي متأخر نسبيا عن الحدث ليحول مشاعر الثوار إلى برامج سياسية ملموسة كما يضفي على مسحة الغضب الثوري بعدا أكثر منطقية من خلال ارتباطه بأهداف مصاغة ومقننة ” على افتراض توفر حالة النضج السياسي لدى الأحزاب من خلال تمثل قيم الوطن والمواطنة باعتبارها مصلحة عليا “.

RELATED ARTICLES

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular