الخميس, مايو 2, 2024
Homeاراءأبو قتادة ودموع الآيزيديات : كمال عبدالرحمن

أبو قتادة ودموع الآيزيديات : كمال عبدالرحمن

قاص وناقد من العراق

قصة :

جمعتني المصادفة  بـ ( سالم النجم) في  حرب الخليج الأولى أو ما تسمى ب ( حرب(الثماني سنوات ) بين البلدين الجارين (العراق) و(ايران)، في خضم أوار مجنون لحرب عالمية مصغرة، وكنا نعتقد أننا لن نخرج من هذه الحرب سالمين، وحتى لو خرجنا، فسيكون ذلك قبل يوم القيامة بساعتين، فالحرب هذه كما تؤكد جميع الدلائل و الوقائع  انها لن تنتهي أبدا، الأنفس مشدودة، القلوب متوترة، والعراق كله تحول الى جمرة من غضب ونار، كانت الأخبار الغامضة توحي بنوع من التحدي المصيري( إمّا نحن أو هُمْ لايوجد حل ثالث!)، لذلك كان علينا نحن الجنود في جبهات القتال ان نكون متآزرين متماهين ببعضنا كاللُحمة والسدى، وحكمت الايام ان يكون( سالم النجم) زميلي في خندق القتال، ومنذ الساعات بل الدقائق الأولى التي رأيت فيها( النجم) ، أحسست ان هذا الرجل لن تربطني به اية صداقة او زمالة قتال، كان مصفر الوجه شاحبا، شديد التأفف، كثير الشكوى، يسوده التبرم، ويضايقه أي شيء وكل شيء، منذ اللقاء الأول أوحى لي أنه واقع تحت ظلم كبير، فهو مدير دائرة في وزارة الثقافة، وأديب وصحفي، ولا علاقة له بالحرب من بعيد أو قريب، ينظر اليّ والى رفاق السلاح بتكبر واضح ، كأننا حشرات لايحق لنا مجالسته او التكلم معه، مدمن تدخين، ومدمن على قراءة الروايات الأجنبية، يقذف فلسفته الخاصة بوجوهنا من عَلٍ، وكأنه ( ارسطو) أو (افلاطون)  قد يتنازل لإلقاء نثار أحاجيه، وفتات اساطيره، واراجيف فلسفته العقيمة، الحرب العراقية الايرانية، لم تسمح لأي عراقي مهما كانت شهادته أو وظيفته أو شخصيته، أن يكون خارج خنادق المعركة، الحرب أولاً وأخيرا، وبعد ذلك تأتي المناصب والوظائف والشهادات، وضمن مايسمى( المعايشة)، قد تجد في اي خندق  في  جبهات القتال الوزير والسفير والمدير، يعيشون في الخنادق شهرا كاملا لمعايشة المقاتلين ورفع معنوياتهم،وادراك طبيعة المعركة واهميتها، ومعرفة  ماذا   يفعل المقاتلون في جبهات القتال، وكيف يعيشون، لكن ( سالم النجم) لم يكن في جبهات القتال من اجل( المعايشة)، بل كان يؤدي خدمة الاحتياط، وهي غير مرتبطة بزمن تسريح من الخدمة مادامت الحرب قائمة( فالحرب أولا وأخيرا!).

لاحظت عند اشتداد القصف المدفعي ان ( النجم) يدخل الى عمق الخندق، وهناك يضع رأسه على ركتبيه، ويغطي رأسه بكفيه وكأنه يبكي، قلت:

ـــ مابك يارجل؟

ـــ أنا لاأخاف القصف أو الموت.. لكن ثمة أمور كثيرة في حياتي تحتاج الى المتابعة.. لدي مشاكل عائلية تنتظر الحل ولايحلها غيري..

ــ اصغِ اليّ يا سالم .. كلنا لدينا الهموم نفسها والمشاكل كثيرة.. لكن لاتدع الاشياء الخارجية تؤثر في نفسيتك هنا في خنادق القتال.. نحن بحاجة الى اليقظة والانتباه الدائمين.. لانعرف متى يهجم الآخر علينا.. كما اننا قد نتلقى بأية لحظة  أمراً بأن نهاجم  نحن العدو.. الأمور متشابكة جدا هنا..

ــ نعم.. نعم.. اعرف هذا جيدا.. ولكنني لم أُخلق للقتال.. أنا رجل مكتب ووظيفة..لارجل حرب..

ـ أتصدق يا سالم.. أنا ايضا رجل وظيفة..

ــ كيف؟

ــ أنا مثلك أعمل في الاعلام والادب..

ـــ حقا !!

ــ نعم

واخرجت له هويتين.. واحدة تثبت انني عضو في نقابة الصحفيين، والثانية انني عضو اتحاد الادباء بصفة( شاعر).

منذ تلك اللحظة تغير ( سالم النجم)، صرنا صديقين، وعبرنا ذلك الى مرحلة ( الأخوّة) فأنا اناديه ( يا أخي سالم)، وهو ينادني كذلك.

وعلى مدى سنوات عجاف، لم تشهد الحرب علاقة أخوية كالتي بيني وبين( النجم)، ومما زاد في هذا التعالق الاخوي اننا من مدينة واحدة هي ( الموصل) في شمالي العراق،كان لسالم ثلاثة ابناء، الاكبر( أسامة)، وكان يفرح اذ اناديه( اخي أبا أسامة)، ومع الايام صارت عائلة سالم جزءا من عائلتي، وصارت عائلتي جزءا منهم، وعاد النجم يوما من الاجازة حزينا كئيبا، ليقول انهم اخرجوه من الوظيفة، وجاؤوا بمدير آخر مكانه، وعادت الكآبة والعصبية والجنون لأخي النجم، قال إنه سيهرب من الجيش، بل من العراق كله الى سورية، ظل يرغي ويزبد ويتوعد أياما، ساءت حاله النفسية بشدة،واكثر من التدخين الجنوني وقاطع الأكل الا لقيمات تسد أوده، كنا نذهب معا في الاجازة الى اهلنا ، ونعود معا، لكن أحوال الجيش فرّقتنا، وفي يوم كنت في اجازة حينما وصلني الخبر المفجع باستشهاد أخي سالم النجم في جبهة القتال بعد سقوط صاروخ على خندقه، فمزقه هو والخندق،لا اتمكن من وصف شعوري بالضبط عندما رأيته مسجى على سقف سيارة تاكسي جلبته من مشفى في العاصمة حيث تُجمع الجثث هناك وتوزع على المحافظات،ولم اخرج من هول الصدمة الا بعد أشهر طويلة، ومنذ ذلك  اليوم وأنا أرى نفسي المسؤول عن عائلة( سالم)،وكلما يمنحي الجيش اجازة اقضي اغلبها مع ابن اخي ( أسامة) واقضي حاجات عائلته قبل عائلتي، ومن شدة التعالق الذي حدث بينا،صار أسامة يقول  لي بحماس ومحبة( أنت لست عمي.. أنت أبي !).

مضت سنوات كثيرة، انتهت الحرب مع ايران ومع غيرها، وجاء زمن مظلم آخر، ضربت عتمته مدينتي ضربة تقصم الظهر كما يقولون، فقد سيطر المسلحون  على المدينة، وها هم يحاولون احتلال ما تبقى من العراق، وفي يوم جاءني صديق عزيز، دخل معي في محاورة غريبة:

ــ جئتك يا صديقي بأمر لايخطر على بال.. أمر خطير من أجله تقطع الرقاب.. أنا سأهمسه بأذنك.. وانت صاحب القرار

قلت بهمس وفزع: ماذا..؟ ماذا……. قلت!؟

قال: الكلام الذي سمعته جيدا..

قلت والقلق يأكلني: يا صديقي انا صاحب عائلة.. وما دخلي بهذا الأمر؟

قال: لك  الدخل الكبير.. ولا أحد يستطيع غيرك التدخل وحل المشكلة..!

قلت: هذا جنون.. اعذرني لااستطيع

قال بشيء من الاصرار: بل تستطيع لأنك انسان شهم ونبيل.

همست بهدوء: اتركني الان ارجوك.. سأفكر في الأمر.. واحذر ان يعلم احد بهذا الحديث فُيقطع رأسي..

قال بابتسامة أخافتني: ورأسي أيضا..!

ثم خرج وتركني ادور حول نفسي كالمجنون، ما الذي يحدث؟ أيعقل هذا الكلام..لا ..لا.. لاأصدق.. أسامة ابن سالم النجم  هو أمير في جماعة الغرباء؟ كيف حدث هذا وهو أرق الناس وأطيبهم.. الشاب المؤدب الخجول.. كيف؟، نحن ابناء مدينة الموصل وابناء العراق كافة نرى هؤلاء المسلحين جماعة مغالية منحرفة عن الدين،  نقف ضدهم بقوة ، ونحاربهم قدر استطاعتنا، فكيف انحرف هذا الفتى  الطيب المسالم، ليكون أميرا في جماعة ضالة؟!.

كان زائري قد كلفني بالذهاب الى ( أبي قتادة) أوسامة سالم النجم)، وأتأكاد ان الفتيات والنساء الايزيديات السبايا موجودات في بيته أو الأصح في قصره، وقد طرح عليّ الصديق خطة لتخليص بعض السبايا من قبضة ( أبي قتادة)، وهناك من سيقوم بتهريبهن الى مدينة( اربيل) حيث أهلهن ينتظرونهن هناك، طبعا الكلام هذا كله سهل، أما التنفيذ أو التطبيق فيحتاج الى تسعين معجزة في زمن ولّت فيه المعجزات!.

ما ان علم ابو قتادة بقدومي، حتى هبّ لاستقبالي عند بوابة القصر، وكنت اعلم علم اليقين ان المسلحين لاعلاقة لهم بشيء يسمى( انسانية/ صداقة/ قرابة)، ما يهمهم دولتهم المزعومة فقط، وهي الشيء الصحيح، والكون كله خطأ، لذلك ينبغي التكلم ضمن ماتسمح به عقيدتهم وافكارهم ومخططاتهم فقط، أما الحديث في شيء آخر فلايجوز،  فكان عليّ أن أدخل عليهم من أوسع أبوابهم، وهي مسألة الجهاد والغزو والسبايا،واصغى اليّ( أسامة: ابو قتادة) بأدب وهدوء وأنا اتكلم واتوسع في الكلام ولكن بحذر، قال:

ــ انت جئت من اجل السبايا الايزيديات؟

ــ نعم يا حاج أبا قتادة..

ـــ هذا شيء حسن ونحن نشجع الزواج بمثنى وثلاث ورباع..

ـــ صدقت يا أبا قتادة..

ـــ ولكنك ياحاج ــ لاحظ هنا المسلحون لايقولون يا عمي يا خالي يا فلان.. بل يقولون يا حاج ـــ انت تقترح على الاخرين الخير ولا تقترحه على نفسك.. هل تغضب الحاجّة لو زوجناك بسبيّة؟!

طرح السؤال بابتسامة افزعتني، وهو لايقصد انني اتزوج بثانية، بقدر ما يمتحن غايتي  من حضوري اليه وطلبي هذا، وكان يجب عليّ ان اجيب بسرعة عن سؤاله وبشكل طبيعي، خشية ان يشك بأمري، وعندها سأنال عقوبة سهلة وبسيطة جدا، وهي قطع رأسي بالسيف فقط لا شيءغير ذلك، لذلك قلت بهدوء:

ــ قريبا بإذن الله.. أما الان فقد جئت من اجل ان تختار سبيتين من الايزيديات، وأنا مسؤول أمامك عن زواجهما والمحافظة عليهما.

قال بعد دقائق  ــ خلتها سنوات ــ وهو يتأملني، ثم ينظر حوله، ولايعرف ان كان مقتنعا بكلامي أم لا:

ــ حسنا جئني بالرجلين اللذين يتزوجان السبيتين.. لنتأكد من الأمر.

قلت بلهفة:

ـــ وأنا الشاهد الأول في محكمتكم الموقرة على زواجهما.

قال بهدوء:

ــ  لاحاجة الى محكمة .. هؤلاء ملك اليمين ..عوفيت ياحاج.. سلّم على الأهل ــ فالمسلحون لايذكرون اسماء النساء.. فلا يقول سلم على عمتي فلانة اوخالتي فلانة ـــ

قلت باصرار لزرع الثقة اكثر في نفسه:

ــ فهل ممكن تزويجهن في المحكمة.. لغرض المحفاظةعليهن

قال: ــ لابأس .. افعل مابدا لك.. فهن سبايا..

خرجت من عنده والفرح والقلق يتصارعان في قلبي، تملكتني السعادة على الرغم من مخاوفي، ذهبت الى صديقي لنتفق على كيفية تدبير خطة محكمة لأنقاذ السبايا الايزيديات من براثن الغرباء، وخرجنا الى خارج المدينة، جلسنا في العراء نفكر ونخطط بدون قلق، ففي الاقل العراء ليست له آذان،ومرت أيام كثيرة ونحن نخطط ونفكر ونخطط، ثم نفكر ونغير الخطة، وفي النهاية استقر رأينا على اثنين من اعز اصدقائنا، الأول في ( حي الكرامة) والثاني في (حي الجزائر)، مضت بضعة شهور على تخطيطنا، وسبب التأخر، هو ان المسألة لاتقبل ذرة خطأ، والا سيتم اعدامنا جميعا  من قبل المسلحين، ووافق الصديقان بعد الحاح، ولكن بقيت مشاكل عالقة، مثل موافقة الوالدين والاهل، فالزواج بالسبايا نحن جميعا نراه حراما، فكيف تتزوج بأمراة متزوجة وزوجها على قيد الحياة؟ اضافة الى ذلك فالايزيديات لايتزوجن من المسلمين، والايزيديون لايتزوجون بالمسلمات بسبب اختلاف الدين والعقيدة، كما اننا كنا نراهنّ مظلومات فتجب مساعدتهن وانقاذهن من انياب الغرباء ، وهو أمر انساني وديننا دين انساني، لذلك كنا نغامر بأعناقنا من اجل انقاذهن وايصالهن سالمات الى عوائلهن، وبعد اتمام الخطة بشكل كامل، ذهبنا الى (أبي قتادة) واستلمنا السبايا، بعد ان تم  تقديم جميع الضمانات التي طلبها.

كان قلبي يؤلمني على الرغم من سعادتي، وذلك لأنني لم اتمكن من استنقاذ بقية السبايا الايزيديات، فحينما عرضهن أيامي( ابو قتادة) لأختار اثنتين منهن، تمنيت ان أموت بتلك الساعة، ربما لأنني أراني عاجزا عن انقاذهن جميعا،كنت انظر بوجوههن، ولا أرى الا أشباحا، لاأرى نساء بل  مخلوقات ضامرات موحشات خائفات،لاتوجد فيهن رائحة أنوثة، ولا  طعم حياة، تشعر وكأنهن أشبه  ما يكنّ بآلات ميتة لاحواس فيها، يتحركن بلا شعور وكأنهن انسان آلي، وكنت اعرف الايزيديين جيدا اثناء عملي موظفا في مدينة( سنجار) شمالي شرق العراق، كانت لهم شخصيتهم  المعروفة، و عقيدتهم  الخاصة بهم وتراثهم الذي يعتزون به كثيرا، وهم جزء حي من العراق  الذي ضم قوميات وطوائف واديان شتى، وكلهم يشكلون فسيفساء راقية جميلة اسمها( العراق)، كانوا أناسا مسالمين، تربطهم ببقية الطوائف والاديان صلات انسانية واجتماعية عميقة، وحينما اكتسحهم  المسلحون، قالوا(يجب على الايزيديين إما دخول الاسلام أو القتل)، ولم يمهلوهم فبادروا بذبح الرجال، وأخذوا النساء سبايا، ووزعوهن غنائم كيفما شاؤوا، وكانت فيهن فتيات قاصرات، وفيهن كبيرات في السن، ولم يفرق داعشبين هذه وتلك، فاغتصبوهن وقتلوا من رفضت الاستسلام لنزواتهم، والمتتبع لهذه الجرائم سيجد أنها جرائم حرب عظمى، نادرا ما وقعت في أية حرب في العالم، كما حدثني بعض الاصدقاء الايزيدينمن داخل الكارثة أو الفاجعة نفسها.

اشتهرت جرائم الغرباء بحق الايزيدين في العالم، وذلك بعد قتل الرجال واغتصاب النساء والقاصرات، ودفن عدد من النساء الكبيرات في السن وهن أحياء، وتم اغتصاب الطفلة الصغيرة والمرأة العجوز على حد سواء، لم يستثنوا امرأة مهما كان عمرها من الاغتصاب، لذلك انتشرت ظاهرة السبايا الايزيديات في الموصل وفي بعض المدن السورية، ونشط النخاسون الذين يبيعون السبايا في سوق النخاسة، وقد عُرِض عليّ شخصياً أكثر من مرة  أن اتزوج بسبيّة فاعتذرت بحذر، رغم انني شخصيا لاأؤمن بمسألة السبي في زمننا هذا، وأراه اعتداء صارخا على اعراض الابرياء.

وتمنيت لوجاءني الصديق في بداية احتلال  المسلحين مدينتنا، لكان أمر استنقاذ السبايا فيه سهولة ويُسر، ولكن هذه الايام كل شيء صعب ،  والأجواء متوترة جدا،والمسلحون مقبلون على حرب  تعد لها الحكومة منذ زمن ، لذا حتى التنفس يحاسبنا عليه الغرباء، لماذا تنفستَ؟ وكيف تنفستَ؟ وبأمر مَن تنفستَ؟!، هكذا كانت الأمور تسير بصعوبة، بل أشبه بالمستحيل، ومع هذا فقد ذهبنا الى المحكمة الشرعية الخاصة بهم في منطقة ( حي الضباط في الموصل) وعلى واجهة المحكمة رسم فيها حذاء كبير يدوس على كتب القوانين الوضعية  ومعناها ان كل قانون في الكرة الارضية هو تحت حذاء  الغرباء عدا الشرع الاسلامي ( المقصود شرع المسلحين)، وهنا قمنا تحت اجواء مرعبة بعقد قران الصديقين المتطوعين على السبيتين ( ليطمئن قلب  المسلحين فقط)، بعدها أخذتهم جميعا الى ( أبي قتادة)، وعرضت عليه عقد الزواج،وقلت له ( هل انتهى واجبي؟) ، قال بطريقة ازعجتني ولم تعجبني ( أتمنى ذلك..!؟)، وكنت اعرف انه يقول( واجبك لاينتهي وانت مسؤول عن ابقائهما داخل حدود  دولتنا)، ولكنه لم يقل ذلك علنا ربما لأنه أراد ان يوضح  لي أنه لم ينس تلك الخدمات والواجبات التي  كنت أقدمها له ولعائلته، وكان ينبغي على خطتنا أن تكون مُحكمة ودقيقة، فأي خطأ تُقطع فيه الرؤوس، وبصعوبة بالغة تم تطبيع وجود السبيتين في البيتين الجديدين، على الرغم  من ان الصديقين قد أوضحا لعائلتيهما، ان الزواج  صوري  غير حقيقي، والسبايا تم انقاذهن انسانيا فقط، لا للزواج بهن، ومع الايام صار قلقلي يزداد، وخوفي يتضخم على شكل كابوس يقض مضجعي، فلا أنام، ولاآكلمن شدة الفزع على نفسي وعائلتي والسبايا واصدقائي الأبطال الفرسان، الذين راهنوا بأنفسهم وعوائلهم من اجل انقاذ الايزيديات، وهو إما انقاذهن، أونُذبح جميعا بحد السيف، والمسلحون قد تفننوا في ابتكار طرق جديدة للإعدام، منها احراق الضحايا وهم أحياء، أو اغراقهم  بعد تقييدهم بالسلاسل وهم أحياء، أو وضعهم في سيارة ويتم قفل ابوابها باللحيم، ثم يتم رمي السيارة بقذائف (آر بي جي) حتى تنفجر السيارة ويتمزقون اشلاء، وهناك طرق اعدام مبتكرة لاوصف لها، لعل ابشعهاعندما قاموا بادخال طفل صغير في قفص فيه أسد جائع فافترسه أمام انظار الناس، كان المسلحون يعدون علينا أنفاسنا ومن تنفس نفسا زائدا، أمطروه بالأسئلة حتى يعترف بذنب لم يرتكبه، ويُعدم بكل بساطة!؟.

لم استطع أن أنفس عن كربتي بطريقة ما الاّ ان اغادر المدينة الى القرية، هناك عراء الله لم تلوثه أنفاس ارهاب اوغير ارهاب، الانهار الجميلة، البساتين، الربيع الذي بدأ يعلن عن حضوره بصعوبة بسبب شحة الأمطار، وهناك أيضا لم أنم، أدخن ليل نهار ( خفية لأن التدخين بنظر المسلحين جريمة يستحق عليها المدخن أقسى عقوبة)، مستغنيا بالسيجارة عن الطعام والشراب، أدور في البساتين مثل مخبول يطارده عقله، لا أحس بالناس التي اعتادت على استقبالي بحفاوة، وكأنني وزير أو شخصية عظيمة، لا كأبن عمهم وواحد منهم، لااستطيع الافصاح عن النار التي تأكل قلبي، كل يوم أذوب قلقا ووجعا وخوفا على عائلتي أكثر من خوفي على نفسي ( تُرى ما الذي سيحدث لعائلتي لو قام المسلحون باعدامي علنا أمام الناس في باب الطوب أو في المثنى كما اعتادوا ان يقطعوا رؤوس  ضحاياهم هناك؟)، أكاد أُجن، أفكر بعائلتي كثيرا مثلما أفكر بالسبايا الازيديات، تقتلني الأسئلة،  وقضى على سيل الأسئلة وصول صديقي الى القرية، و هو يهمس بأذني ( أبشرْ.. بشّرك الله بالجنة..”الحمد لله”) همست بأذنه فرحا ( هل “الحمد لله”؟!) ، قال بابتسامة وسرور واضح ( والله ” الحمد لله”) وكان واضحا معنى “الحمد لله” ( الحمد لله السبايا الايزيدييات قد وصلن الى أهلن في محافظة أربيل بسلام).

وفي الوقت الذي يفترض فيه ان المشكلة قد انتهت، فهذا لايعني أنني قد خرجت من دائرة رقابة  الغرباء، فهُم مجنونون بالقضايا الجاسوسية والاستخباراتية، يعلمون عن اي شخص مالا يعلمه عن نفسه، لذلك كان على أدور حول مكان الجريمة التي ارتكبتها  ــ وفق منظور وعقلية المسلحين فتحرير الايزيديات من قبضتهم يعد جريمة كبرى ــ وهذا معناه أن اكون قريبا من ابي قتادة، ليطمئن هو، وأطمئن أنا، أي الفريسة والمفترس، وفي البداية كان يسألني عن اخبار السبايا، فأقول إنهنّ بخير، ومع الايام لم يعد يسألني، فعرفت أن المهمة قد انتهت بخير.

بعد أشهر من انقطاعي عن زيارة (أسامة النجم أو أبي قتادة)، زارني عمه ( خالد النجم) في بيتي، فاستقبلته بحفاوة، وكان يبدو عليه ضيق شديد من وجود ابن أخيه في صفوف  المسلحين، ولأنني لم أعد أثق حتى في نفسي، لذلك كنت أتكلم وكأنني فخور وسعيد بحكمهم، فمن يعلم ما تخفي لنا الأيام،قال:

ـــ كما تعلم يا استاذ انت جزء من عائلتنا وواحد منا.. وافضالك  معروفة بما قدمته لعائلة اخي ( سالم ) رحمه الله.. واريد ان اكلمك في موضوع ابن أخي( أسامة)

اجبت باعتداد واضح كأنني أتكلم عن ملك أو رئيس وزراء:

ــ بارك الله في هذا الرجل .. انه أمير ونعم الأمير

ــ ما هذا قصدي ياصديقي..

ـــــــــ أيا يكن قصدك.. فنحن نفتخر به
ـــ يارجل.. يارجل.. لاتخف أنا عمه.. وأنت بمقام عمه

ــ  ماتقصد بأنني عمه؟

ــــ هذا الفتى الطيب المسكين غُرربه

ــ كيف؟

ـــ تخرج في كلية الشريعة.. وتم تعيينه إماماً وخطيب مسجد في منطقتنا…

وحينما رأيت أنه صمت ليتذكر شيئا ما، قلت:

ــ ماتقصد بكل كلامك هذا  يا رجل؟

ــ دخلوا عليه في المسجد.. وهددوه إما  أن يعمل معهم.. أويُعدم على الفور.. وكانوا يعرفون قيمته العلمية وشخصيته  المؤثرة في الناس، فنصّبوه بعد عامين من الاختبارات أميرا على  أحد دواوبنهم..

ـــ وما علاقتي بكل هذا؟

ــ أنت بمقام عمه ويحق لك معرفة الحقيقة..

ــ وما المطلوب مني الان؟

ـــ لاشيء.. فقط اردتك أن تعلم ..لاأحد في بلدنا كله يرضى عن هؤلاء الأوباش.. ولكي أرضي ضميري.. أقول لك.. لقد هددوه بعائلته اذا لم يعمل معهم..

ولم يضف الرجل حرفا واحدا،ولم يوضح ما المقصود بـ ( هددوه بعائلته)، ثم نهض وغادرني مسرعا، وآيات الوجع العظيم بادية على ملامحه،فلماذايحدثني  بهذا الحديث، أنا  أعلم أن المسلحين بإمكانهم أن يحققوا غاياتهم بأية طريقة يشاؤون، لكن الكلام فات أوانه، ولم يعد للتبرير معنى ولا طعم، كان على ( أسامة النجم أن يقتل نفسه تسعين مرة ولا يرضى العمل معهم)،  هجمت عليّ الأسئلة دفعة واحدة، وتشكلت في مخيلتي ( ألف لماذا!؟)، لماذا يأتي اليّ عم أسامة بهذا الوقت وبعد استنقاذ السبايا؟، لماذا يحدثني الان بهذا الحديث؟ هل جاء ليتمحن صبري؟ أم جاء ليورطني بالحديث عن الغرباء؟ هل كان يحمل جهاز تسجيل يخفيه في ملابسه ليسجل صوتي؟

لماذا؟………… لماذا؟…………….. لماذا….؟

(لي عائلة اخاف عليها ولا أخاف على نفسي،اتركني لحالي يا صديقي ” عم اسامة”، فإن كان بريئا مضطرا للعمل مع المسلحين، فالله تعالى أعلم وأرحم بالناس، الان اتركني ولا تقلب علي المواجع).

غادرني عم اسامة دون أن يأخذ مني حقا ولاباطلا ــ كما يقولون ـ وتركني في دوامة الاسئلة ، تتلاطمني أمواج الخوف من كل جانب.

*** هذه القصة حقيقية وقعت في مدينة الموصل ايام احتلال داعش  والشخص الذي قام بالتخطيط لعملية الانقاذ توفي قبل عدة سنين الى رحمة الله أما الاشخاص الذين تطوعوا للزواج الصوري من الايزيديات من اجل انقاذهن من مخالب داعش فلا أعرف عنهم شيئا مع الاسف، وللحقيقة والتاريخ فإن كثيرا من اهالي الموصل قاموا بمحاولات بعضها فشلت وبعضها نجحت من اجل تحرير السبايا الايزيديات.

RELATED ARTICLES

3 COMMENTS

  1. القصة حقيقية.. وكان على الادباء الايزيدين ان يكتبوا قصصا وقصائد عن المفاجعة الايزيدية بدلا من ان يكتبوا عن مشاكلهم الشخصية والعشق والغرام بلا معنى

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Most Popular