أحد أهم أسباب التداخل الجغرافي بين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا، المؤدي إلى الصراع العسكري والسياسي، وديمومتها منذ تفكك الإتحاد السوفيتي وحتى الأن، هي تقسيم جغرافية جمهورية كوردستان الحمراء، وتوزيع مناطقها بينهما بشكل عشوائي، ومخطط سياسيا من قبل ستالين، بعدما قام بطمسها، لأسباب عدة: ومنها إرضاء لتركيا الكمالية، ومن ثم إزالتها في بدايات الحرب العالمية الثانية بتهمة التعاون مع ألمانيا النازية، وتهجير شعبها الكوردي بين الجمهوريات السوفيتية الشرقية، إلى درجة تم إسكان بعضهم في ريف جمهورية كركيزيا في شمال الصين، وتم تشتيتهم حتى أصبح الاتصال بينهم شبه مستحيل حينها (*).
ظلت الإشكالية مطمورة بينهما بحكم النظام السوفيتي، وبرزت الخلافات في بدايات انهيار الدولة القوية، حينها طالبت منطقة ناكورينا كرباغ بالاستقلال عن أذربيجان، دعمتها أرمينيا، وتكتمت روسيا عن دعمها غير المباشر، ورغم تمكنها من مواجهة أذربيجان، وهجر أغلب الأذريين منها، لكنها لم تحظى بالاعتراف الدولي، لمعارضة أذربيجان وعدم موافقة أرمينيا وروسيا، وظلت منطقة تابعة لجمهورية أرمينيا، ولكن كلما تتجدد الخلافات عليها، تعلن أرمينيا؛ أنها على وشك الاعتراف بها كجمهورية مستقلة تحت أسم جمهورية ناكورنيا قرباغ أو ما تسمى في أرمينيا بـ آر تساغ، ومعناها غابة آر، أي غابة إله الشمس، لإدراكها أن موقعها الجغرافي في وسط جمهورية أذربيجان الحالية تجعلها هدف لتهديدات مستمرة من قبل أذربيجان وتركيا.
ورغم أن إشكالية مقاطعة ناختشيفان الأذربيجانية، ذات الحكم الذاتي، الواقعة ما بين جمهورية أرمينيا وتركيا، أقل إثارة لأن أرمينيا لا تطالب بها، علما أن جزء من جغرافيتها كانت ضمن جمهورية كوردستان الحمراء في بدايات تشكيلها، ولا يستبعد أن تثار في المستقبل الإشكاليات حولها فيما إذا استمر الصراع بين الجمهوريتين، رغم أن تركيا متشددة في دعمها لجمهورية أذربيجان، وهي المنطقة الجغرافية الوحيدة التي توفر الاتصال الحدودي بنيها وبين أذربيجان والتي تقدر بـ (18) كم فقط، مقارنة بحدودها مع أرمينيا البالغة (328) كم. إلى جانب هاتين المنطقتين هناك مناطق أخرى متداخلة بين الجمهوريتين، مدن وضواحيها تابعة لأحداها تقع في جغرافية الأخرى.
كثيرا ما تثير أرمينيا قضية الاعتراف الرسمي بجمهورية ناكورنيا، ظلت أغلبية سكانها من الكورد الإيزيديين رغم التهجير الواسع الذي تم في بدايات القرن الماضي؛ وعلى مراحل، وهي تدرك أن الحل الأفضل لقطع دابر التجاوزات الأذربيجانية والتركية، وضغوطاتهما على روسيا الفيدرالية، هو الاعتراف بها ومحاولة إقناع روسيا بذلك، ولا شك أنه بدون الاعتراف الروسي لن تتمكن أرمينيا لوحدها من تجميع الرأي العالمي، ووضع قضيتها على جدول أعمال هيئة الأمم، للحصول على الاعتراف الدولي بالجمهورية الصغيرة والواقعة ضمن جغرافية أذربيجان باستثناء ممر ضيق يوصلها مع أرمينيا، بعدما تمكنت الأخيرة إعادتها مع بعض من المناطق التي كانت سابقا لأرمينيا أو تابعة لجمهورية كردستان الحمراء وضمها ستالين لأذربيجان لديمومة الخلافات بينهما، والتي تقدر بـ 20 من مساحة أذربيجان. بالمناسبة تكلف المهاجرون من الأرمن تعبيد الطريق الواصل بين المنطقة وأرمينيا والبالغ طوله 60 كم.
وهنا تعلم حكومة أذربيجان وتركيا، أن أي اعتراف بها، قد تؤدي إلى توسيع جغرافيتها، وربما إعادة أحياء تاريخ بدايات تشكيل جمهورية كوردستان الحمراء، وكانت تشمل منطقة ناختشيفان، أو جزء واسع منها، وبالتالي ستكون حدودها متصلة مباشرة مع تركيا، وقد تتأثر بعض من مناطق أرمينيا بها، كما وفي حال تم الاعتراف بها قد تظهر دراسات تاريخية تعاد أحياء أسمها القديم، وهنا وبالتأكيد ستظهر اعتراضات ليس فقط من تركيا بل من إيران وبعض الدول الأخرى.
على هذه الخلافات، والتدخلات الجيوسياسية، تفضل روسيا الفيدرالية العمل في المجال الدبلوماسي، أكثر مما يتطلب منها الموقف الحاسم من الاعتداءات الأذربيجانية والتركية الواضحة، وهو ما تظهرها، كحكومة مترددة في دعم حليفتها أرمينيا، علما أنها الدولة الوحيدة المتمكنة من حسم الموقف، وتكاد أن تكون موقفها هنا على سوية مواقفها من تركيا في الصراع الليبي والسوري، رغم اختلاف نوعية المصالح، وهي التي سهلت لأذربيجان وبمساعدة القوات العسكرية التركية، والمرتزقة السوريين الذين تم إرسالهم، من اقتحام مناطق في منطقة ناكورنيا قره باغ، والتي سميت في بدايات الثورة البلشفية بجمهورية كوردستان الحمراء.
والسؤال:
فيما إذا تمكنت أذربيجان من إعادة المنطقة إلى حاضنتها، هل ستظل روسيا على الحياد، علما أن ؟
وإن تم هل هي مبنية على استراتيجية صراعها مع الناتو وأمريكا والقضايا الجارية في دول البلطيق، وغيرها من المناطق والتي تؤدي إلى تغاضي روسيا عن معظم التجاوزات التركية في المنطقة؟
ألا تتبين أن تركيا بدأت تستفيد من صراع الأقطاب، وتتمدد في كل الاتجاهات، القومية والإسلامية، وفعلا وكما يقال إنها تعيد الهيمنة العثمانية مضافة إليها البعد التركي القومي؟
إلى متى ستظل روسيا صامتة على التجاوزات التركية، مستخدمة السياسة المرنة معها، المشابهة للدبلوماسية الأوروبية الرخوة؟
وفيما لو أردنا أن نبعد التأويلات السابقة، ومثلها أن روسيا ومعها أرمينيا في الحقيقة لا يريدان ظهور جمهورية ناكورنيا كرباغ، مساحتها لا تتجاوز 4400 كم مربع، وعاصمتها كانت حتى عام 1917م كانت قرية تسمى بـ خانيِّ گُندي قبل أن تبدل بـ استبانا كيرت، والتي ستكون على الأغلب جمهورية للكورد الإيزيديين، وستدخل ولأول مرة في التاريخ كخطوة دولية إنسانية-سياسية يعترف بها بهذا المكون الكوردستاني، وسيكون رد أسطوريا على الفرمانات العديدة المتلاحقة بالكورد الإيزيديين، أي كانت اسم الجمهورية، لشعب المنطقة حق الاختيار، فهم الذين ضحوا واستقلوا عن أذربيجان.
فما هي الأسباب المؤدية إلى هذا التردد غير المعهود من الجانب الروسي تجاه دولة كانت عدوتها الألد على مدى قرون عديدة، وخسرت معها جغرافية واسعة على أطراف البحر الأسود ومنها بعد الثورة البلشفية؟
هل ستتمكن تركيا وأذربيجان من اقتطاع جزء من جغرافية أرمينيا وعلى مرأى من روسيا؟
كيف سيكون الموقف الأمريكي، والأوروبي حينها، وموقفها في حال أقدمت أرمينيا على الاعتراف بها كجمهورية مستقلة؟
معلومات عامة عن الصراع بين الجمهوريتين بعد انهيار الإتحاد السوفيتي:
بدأت المشاكل بين الجمهوريتين عام 1988م أي في بدايات البريسترويكا، ونشب الحرب في عام 1991م. أصدر مجلس الأمن عام 1993 قرار رقم 822 طالب فيه القوات الأرمينية بالانسحاب من الأقاليم المحتلة في أذربيجان، لكن القوات الأرمينية لم تمتثل للقرار.
انتهى القتال بينهما عام 1994 وتم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، بدون معاهدة سلام.
في عام 2006، وضع دستور لكورنيا كرباغ كـ “جمهورية” مستقلة ومنفصلة عن أذربيجان عاصمتها “استبانا كريت”.
لم تحظى باعتراف المجتمع الدولي، بما في ذلك أرمينيا- وروسيا، لذلك فهي شبه مستقلة تابعة لأرمينيا.
(*) للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة المصادر التالية:
1- مصطفايف وكيل. الكتاب الإلكتروني، كردستان القوقازية، ترجمة أحمد على حيدر.
2-كردستان الحمراء، دراسات، للكاتب عبد الله شكاكي، موقع مركز الفرات، تاريخ 9/92018م
3- مقالة، للكاتب حورو شورش، موقع ولاتي ما، تاريخ 4/9/2006م
3- سلسلة مقالات للدكتور محمد البرازي، عن كورد الإتحاد السوفيتي، منشورة في صفحته الفيس بوك.
هناك مصادر أخرى، بعضها باللغة الروسية، والإنكليزية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
27/9/2020م